د.عقيل مهدي يوسف
يبقى الحب عند الفلاسفة والأدباء موضوعاً (وجدانياً) ، يعبر عن تجربة الأديب وحتى العالم ، في حياته الواقعية المعاشة .
ولكل واحد منهم تمثلاته الخاصة المتفردة، التي تنأى عن شخصيته ، بوصفه مؤلفاً لها ، وإن كانت تحفيزاته تتستر خلف أقنعة إبداعية ، وبالتالي تصبح متعالية وحتى مفارقة لكينونة كاتبها ، فتصبح القضية اليومية المهملة وغير المعروفة لدى المتلقين والقراء الى تجربة إبداعية جمعية ، بمخيلاتها وإيقاع أصواتها ، ونظام تأليفها ، أعمق تأثيراً لتكون أشد حضوراً من إطارها الشخصي السابق .
يطرح الكاتب ( علي حسين) في كتابه الموسوم " سؤال الحب من تولستوي الى آينشتاين " إشكالية الحب التي تبقى الإجابات عنها رهن كفاية القارىء ومقدار انفعاله وتجاوبه مع تلك الآثار الفنية ، برؤاها وأسلوبيتها وما تضمره من رسائل ومواقف واستقامة أوزان ، بعيداً عن يقينيات البرهان ، ومسلمات الجدل وظنية الخطابة وكذب الأوهام لأنها تتوسل المجاز والكناية بمنهج فني وخطاب جمالي، يتجاوز تلك الحقيقة الحياتية التي كابدها المؤلف نفسه.
وصف العرب المرأة الجميلة بلونها الناصع وطولها الجيد وثغرها النقي ، وجسدها المتناغم وطرفة لسانها، وحسن العين والأنف ، أي تضم معاً ، حسن البيان والصوت والصورة ولكن سنرى مع نزهة القراءة في كتاب ( سؤال الحب ) اختلافاً في ردود الأفعال بين من انتقاهم "علي حسين" وتشعباً في شبكات التواصل بين المحبين وانفعالات نفسية من قبلهم تتقاطع مابين الرضا والسخط أو النفور والرغبة المستعرة ، إذ تلعب اللغة الأدبية والفلسفية وحتى الأسطورية ومقابلها العلمية دوراً حاسماً في جذب المتلقي الى دوائر سحرها بمتونها ونظام تأليفها وبلاغتها الفنية .
يحيلنا الكتاب الى مرجعيات مختلفة يندرج فيها هوميروس بأساطيره وآنيشتاين بنظريته النسبية وكذلك هناك سلسلة من الأدباء والفنانين وثلة من الفلاسفة قدماء ومحدثين ، وهم أمام تحديات الحب في مصائره وحتمياته وحرياته التي تطوق حياتهم بحكمها الصارم الذي لا يقبل استئنافا في الغالب ، " زيوس" لا يريد أن ترحل حبيبته لينعم بمباهج الحب معها ، و ( أوفيد ) يرى أن الحب يختزل الحياة كلها – ووجد ( الوشاء ) أن علامات الهوى هي : " نحول الجسم ، وطول السقم ، وقلة النوم ، وإدمان الفكر ، وإظهار الخشوع ، وإعلان الحنين " (ص6) .
ويعلن ( اراغون ) انه تعلم " الحب " لوحده في هذه الحياة وسيجمل " ستندال " تعريفه للحب بأنه عاطفه وذوق وحسن وكبرياء .ويراه " تولستوي" في رواية "القوزاق " حباً للحرية والاهتمام بالآخر في رواية " جولي أو هلويز الجديدة" يعالج ( روسو) قضية الحب بين استاذ وتلميذته الجميلة وبينهما فوارق طبقية لا تسمح بهذا الحب. ووقفت الى جانب " دكنز " ابنة " ناشر " اقنعته لينشر رواية " دوريت الصغيرة " فالكاتب " استاذ - كما تقول- في الرقة والأحلام والعاطفة " (ص24)
وتذكر رائحة الموز " غابريل ماركيز " بالغراميات غير المواتية في روايته " الحب في زمن الكوليرا" وهو معجب بعبارة شكسبير : " بقوة الحب الجبارة نجابه الزمن " ص43، "ويكون الحب أكثر زخماً كلما اقتربنا من الموت ".
يقول ( تورجينف) : " ماكتبت إلا وحمى الحب تهزني " .ص61 ، وتابعت "ساجان" ضياع الحب في هموم حياة برجوازية لتخلص الى أن " الحب مثل المال ، لابد من انفاقه " ص79، وتثبت بأنها "عاشت الحياة " أكثر مما كتبت عنها ، ص 80 ، و (همنجواي) حين تخبره الممرضة ( انييس ) : الموت يطاردنا وأنت تكتب عن " الحب " ؟ يقول لها :" الحياة مأساة مثل الحرب نهايتها واحدة .. فلنمت حباً " .. وكل تجارب الحرب لاتعادل تجربة مع "امرأة جميلة " (ص89)، ويتذكر ( اراجون ) قول أمّه " بأن الحب ليس نزوة ، بل شرارة تشتعل طوال الحياة " ص 94, وكانت حبيبته (ألزا ) قد حركت قضايا الانسانية لديه .
وفي تشبيه طريف ترى ( ايزابيل اليندي) إن الحب " مثل الحصبة، يخلف اثاراً لا تمحى " وهي لا تعيش على " الذاكرة " بل تتماهى مع أبطالها ، لتجد في "العشيق الياباني" وهو اسم روايتها ( بأنها وجدت أن معظم العلاقات الغرامية في كتبها تكون فيها المرأة ، هي المبادرة فبيدها استدامة الحب )، ص141 .
ويتساءل ( ستاندال ) هل نسلك إزاء المرأة ، كعاشقين مولهين حزانى ؟ أم شجعان ، صرحاء وبخفة روح ( ص164) , فالرجل يهاجم في ( الحب) بشجاعة ، والمرأة تدافع بخجل ، (ص165) .
والإنسان ، إما ( خبيث ) يتحدث عن الفضيلة ويمارس أقذر الأشياء أو ( طيب ) يفيض قلبه حباً ورحمة بالآخرين (ص163) .
ويستهدف بلزاك في هجومه والدته ، ويقول : " امي مزعجة طوال ساعات ، ومرحة ولطيفة للحظة واحدة" (ص225) . ، وهو في (رواياته ) يريد ان ينتقم من المجتمع ، ويمتلك النساء ( لتتصوب كما يقول الأنظار اليه) ص 226، ويذكر في سيرته ( إن الحب اتخذ لديّ شكل الهوى الجبان المطلق الذي يتملك بعض الشيوخ) ص 228 .
وجد ( هيجو ) رساله على سرير ( بلزاك ) الى ( مدام ديبوني ) : كتب فيها ( منذ ان غادرتي الحياة ، صممت على ترك هذه الدنيا الفانية ) ص235.
وشاعت شخصية ( كازانوفا) بوصفها نمطاً لأولئك الذين يجدون في ( الحب ) – لذة وألماً ومغامرات ص 330
نخلص في كتاب (سؤال الحب ) تأليف :علي حسين ،الى أنه يقوم على انتخاب مصادره ومراجعه بدقة، للوقوف عند مواقف متنوعة لدى أدباء وفنانين وفلاسفة وعلماء مرفقة بنماذج تحيلنا الى كتب وأعمال فنية ابداعية ، لتقرب لنا هذه الرموز العالمية والعربية ، من خلال سؤال الحب ، الذي يكشف عن وجودية الانسان وجوهره ، وهو يصارع مشكلات الحياة ، ويظهر العوالم الوجدانية التي تميز الكائن البشري وتعيد صياغة شخصيته بعيداً عن الزيف والتنميق المجاني ، وتسلح (القارىء) بكل ما يعينه من تلك التجارب التي خبرها أعلام كبار وعلى مستوى عال من الذكاء والابتكار النادر ، وقد اتخذ المؤلف مساراً موازيا ومعاكساً في آن واحد لما عرف عند (رولان بارت) بمصطلح ( موت المؤلف) محاولاً أن يعيد تأهيل ( الكاتب الحي) وهو يدوّن (طرسه ) الكتابي بما استقر في الذاكرة الحياتية من ناحية ، وما يتطلبه الإبداع من جهد خلاق من ناحية أخرى . وما أحرانا بمباركة مثل هذا الجهد التأليفي المركب وهو يطمح لشحذ قدرات المتلقي وتعميق مسار التأويل والمشاركة في غبطة بينة مع سؤال الحب الأبدي الذي يرافقنا في رحلة الحياة بشكل روحي وعضوي .
كان الشاعر ( ايلوار) يرى بأن بيكاسو أحب كل هاتيك النسوة بشدة ، لكنه دمّر الشيء الذي أحبه، لأن آخر حبيباته ( جاكلين) قد انتحرت بعد موته، فهي لا تطيق حياة بدونه ، حتى أن الرئيس ( بومبيدو) قال عن بيكاسو :" انه الخلود الدائم لفرنسا ", كما نجد إن عالماً مثل انيشتاين لم يختلف عن سواه من المحبين العاشقين لرمزية المرأة والمتناسلين منذ آلهة الخصوبة في سفر سومر وأساطير العالم القديم ، حتى سرديات الروائيين الكبار أمثال : ( ريمارك ، ودستويفسكي ) هذا ماخطه يراع الكاتب ( علي حسين ) وهو يحكم ذوقه ، بأدراك موضوعته المرتبطة بشعور جمعي مشترك في سياحة معرفية وجمالية وعاطفية واعية ومركبة