لطفية الدليمي
تذكرنا الخطبة الشهيرة التي ألقاها الشاعر جون ملتون ( صاحب الملحمة الشعرية العظيمة ( الفردوس المفقود ) أمام البرلمان الإنكليزي عام 1644 تذكرنا بمعيقات الحرية عندنا ، لقد دافع ميلتون في خطبته بأدلّة حجاجية قوية عن أهمية حرية الكلام والتعبير ومناهضة كلّ أشكال القمع والرقابة كما تضمنت نظرته الإصلاحية للتعليم .
تعدّ هذه الخطبة من بين أكثر المدوّنات النثرية التأريخية أهمية في بيان الدفاع الفلسفي عن حقوق الأفراد في التعبير .
إن حرية التعبير ورفض الرقابة على الفكر والعقل لاتأتي من الأمنيات والنوايا الطيبة لبعض الساسة والكتاب الحالمين ولاتتحقق بكتابة مادة دستورية أو بإصدار أمر فوقيّ أو بيان يدبجه ناشط سياسي بل هي مكسب إنساني يتنامى عبر تراكم ثقافي وسلوكي ونضالي يؤسس له مثقفون ومفكرون وفلاسفة ليتطور على مدى قرون ويتأكد في ضمائر الناس ويصبح حقيقة معاشة يتمتع بها الفرد في مجتمع معافى..
عدت خطبة الشاعر جون ميلتون من بين الخطب التاريخية الشهيرة الى جانب الخطابات الإغريقية الشهيرة وكان عنوانها ( اريوباغيتيكا ) وتعود هذه التسمية الى العصر الأغريقي كاشفة عن تأثر ميلتون بالخطيب اليوناني الشهير ايسوقراطيس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد .
في حزيران 1643 أصدر البرلمان البريطاني قراراً مشدداً يقضي بإعادة القيود التي فرضتها أسرة آل ستيوارت الملكية على الصحافة. فكتب الشاعر جون ميلتون خطبته الشهيرة وأعلن هجومه الشديد على الرقابة داعياً الى صحافة حرة تنشر بلا قيود أو ممنوعات وأكد في خطبته العتيدة على الحريات العامة للمواطنين ومن ضمنها حرية التعبير، في نص رائع من النثر الجميل الذي تجمله نبرة شعرية ساخرة وضمنها عبارته الشهيرة التي تناقلتها الأجيال : "إن قتل كتاب جيد جريمة لا تقل فداحة عن قتل انسان وإن من يقتل انساناً يقتل مخلوقاً عاقلاً يمثل صورة الله ولكن من يدمر كتاباً يقتل العقل نفسه، يقتل صورة الله "
كان مفهوم الحرية لدى جون ملتون كلاً متكاملاً لايمكن التفريط بجانب منه ، كما تفهم الحرية لدى الفلاسفة والمفكرين العظماء في كل العصور ، وقد شحذ ميلتون كل قدراته الفكرية والإبداعية ليدافع عن إيمانه بالحرية العظيمة ويُحاجج بشأنها أمام برلمان بلاده في تلك السنوات التي سادتها الفوضى والصراعات الدينية الدموية بما يشبه أوضاعنا الراهنة ..
اشتهرت ميلتون بأعمال شعرية عظيمة تهجو الصراع القائم على السلطة بين أطراف الكهنوت على السلطة ومن بينها قصيدة ( كاموس) وقصيدة ( ليسيداس) اللتين تحدث فيهما بجرأة وبسالة عن العدالة وانعدام تطبيقاتها في عالم يهيمن على سلطته من لايقيم وزناً للعدالة .
نتحدث عن حرية القول وحرية التعبير في صحفنا وكتاباتنا ، ويخال البعض أن حرية التعبير تقتصر على نقد الأداء السياسي وكشف مخالفة القوانين والخلل العام بل وحتى اللجوء الى تجريح وفضح الشخصيات العامة التي تجاوزت على الوطن والمواطن ، نعم هذا جانب أساس من إمكانات تتيحها ضمانات حرية التعبير، غير أن لحرية التعبير أبعاداً كبيرة تتعلق بحرية المجتمع وحرية الأفراد في التعبير عن الموقف والحاجات الحياتية والنفسية والجسدية ،وأن يحوز الفرد حق التنقل وحق الحصول على مسكن يليق بالكرامة الانسانية وحق اختيار الملبس وحق الحصول على العلاج والعمل المناسب لشغفه وقدراته .
ترى ، كم من الزمن نحتاج لنقول مانؤمن به بلا خوف أو رهبة من سيوف المتعصبين والمتزمتين الذين سيحكمون علينا بالمروق والكفر والخروج من الملة!!