ستار كاووش
ربما بسبب الشخصيات التي أرسمها وأتماهى معها، أتخيل نفسي غالباً كمخرج مسرحي لديه مجموعة من الممثلين، يحركهم في هذه الزاوية أو تلك المساحة من خشبة المسرح. ومرد ذلك هو أن قطعة الكانفاس التي أرسم عليها هـؤلاء العشاق والمحبين تشبه الى حد بعيد منصة مسرح، بما يحتويه من ممثلين وإضاءة، وكل ما يضمُّهُ من مؤثرات وحكايات مليئة بالخيال، وتفاصيل يرويها للناس بطريقة ساحرة. لذلك أحب المسرح كثيراً، وأحاول أن أتابع قدر المستطاع، العروض التي تضيف لي شيئاً من السحر والعاطفة والخيال. وهذا الأسبوع كانت حظوظي كبيرة، بحصولي على تذكرة عرض مسرحي نادر وباهر الجمال. فبعد انتظار طويل للمسرحية الهولندية (فارس الريح) تم تحديد أوقات العرض، ليتسارع الناس كالبرق لحجز بطاقاتهم، حتى نفدت التذاكر بوقت قياسي لكل أيام العرض، لكني في النهاية استطعت أن أجد لي مكاناً في آخر يوم للعرض الذي أُقيمَ في مدينة ليواردن شمال هولندا، وعلى مسرح بُنِيَ خصيصاً لذلك، وكان شبيهاً الى حد بعيد بالمسرح الروماني، حيث إستوعبَ خمسة آلاف شخص لكل عرض.
اعتمد المخرج (يوس تَي) على قصة للكاتب الألماني (تيودور ستورم)، ليبني عليها عالمه الذي إستمر ثلاث ساعات امتزج فيها المسرح والموسيقى والغناء والرقص والأزياء وعروض الخيول ورقصاتها الأسطورية، في عرض باهر واستثنائي عن صراع الإنسان مع ماءالبحر الذي يهدده على مرِّ العصور.
يظهر فارس الريح (الممثل يلي دي يونغ) ليواجه فيضان البحر وعواصفه الهائجة، ويلتف حوله مجموعة كبيرة من الممثلين والحيوانات مع مؤثرات لا تخطر على بال أحد، حيث ساهم في العرض ستون ممثلاً وممثلة، إضافة الى مئة حصان من الخيول الفريزية النادرةومجموعة كبيرة من الأوز الابيض والماشية وعدد من النسور وطائري نورس، ومئات من الأزياء التاريخية، وكنيسة كاملة بُنيت خصيصاً في مكان العرض، كذلك مجموعة من البيوت، والعربات التي تعود لطراز القرن السابع عشر، إضافة الى كميات هائلة من الرمال التي استقرت في كل مكان من المسرح، وبناء سد كبير في الخلفية، وليس إنتهاءً بالمياه التي فاجأتنا وهي تتدفق نحوالمسرح وتبلل الممثلين والصالة، ويصل رذاذها إلينا نحن الجمهور، بل وحتى عواصف البحر رأيتها وتحسستها في العرض وهي تتغلغل وتتحرك فوق رؤوس الجمهور أمامي حتى ارتطمت بوجهي وحركت شعري بقوة! هنا تحسستُ وشاهدت بأم عيني،طغيان البحر وقوة الإنسان وجمال الفن.
لقد لعبت الخيول الفريزية هنا، دوراً مدهشاً في خلق التوازن، وتقديم العرض بفنية عالية ومتعة تداعب الروح والمخيلة، هذه الخيول التي امتلكت مكانة خاصة بفضل مظهرها الملكي المتفاخر وبناء أجسادها المتناغمة وشخصيتها الودودة وقوتها الكبيرة، يضاف الى ذلك لونها الاسود اللامع الذي يضيف الى شخصيتها الكثير من الغموض، فكان العرض بشكل أو آخر، عبارة عن قصيدة ملحميةعن سلالة هذه الخيول التي أُختيرت سنة ١٩١٦ أجمل خيول في العالم.
يبقى الصراع مع الماء قديماً قدم الإنسان نفسه، والهولنديون يعتبرون بحكم موقعهم الجغرافي(تحت مستوى سطح البحر) خبراءومتمرسين في المواجهة مع البحر وايجاد الحلول لطغيانه، بإنشاء السدود وإقامة الحواجز والدفاعات، لذلك فحكاية هذا العمل تصلح لكل وقت، والمخرج إستثمر ذلك وقدمها بطريقة تمتزج فيها المعاصرة مع التاريخ، محاولاً الإشارة أيضاً الى عملية إدارة المياه التي تشكل أزمة في عالم اليوم، وأن مشاكل الماء في الماضي مرتبطة بالمستقبل من خلال الحاضر.
لقد ساعدت الخيول الإنسان في الماضي ولعبت دوراً كبيراً في بناء السدود، وتحت أشد الظروف قسوة، لذلك كان لها دور رئيس في هذا العرض التاريخي الذي لا يتكرر. والأمر لا ينطبق عليها فقط، بل على الممثلين أيضاً، هؤلاء الذين أعادونا الى أجواء القرن السابع عشر، بأزياءهم وقبعاتهم وإيماءاتهم التي امتزجت مع الغناء والرقص على أرضية المسرح أو فوق أكتاف بعضهم أو على ظهور الخيول.