TOP

جريدة المدى > عام > كتب ملعونة..عندما لانستطيع الهرب من خطوات الزمن

كتب ملعونة..عندما لانستطيع الهرب من خطوات الزمن

نشر في: 20 أكتوبر, 2018: 09:04 م

ثلاثية الجنس.. الدين .. السياسة

 علــي حســين

|  20   |

في صباح أحد الأيام من شهر أيار 1956، أغلق رجل يبلغ من العمرستة وستين عاماً باب منزله الريفي وراءه حاملاً حزمة من الأوراق غلّفها بصحيفة قديمة وربطها بحبل كانت زوجته تعلق عليه الملابس، كان يسكن في ضواحي موسكو والطريق الى الموعد الذي اتفق عليه مع الزائر الإيطالي تقطعه السيارة بعشر دقائق، لكنه فضّل أن  يذهب الى موعده  مشياً على الأقدام رغم متاعب ساقيه، فقد كان يعاني من عرج  رافقه منذ الطفولة، فقد خشيّ أن يكون هناك  شخص ما يراقبه، ولهذا كان يغير مسار طريقه عدة مرّات، يجلس في أحد المقاهي ليستريح قليلاً، يتلفت حوله ليطمئن أن كل شيء يسير بشكل طبيعي   بعد أكثـر من ساعة وصل الى المكان المحدد،  ابتسم للرجل الذي ينتظره وسلّمه رزمة الورق،  وهو يقول بصوت خافض :"ربما ستتسبب هذه الأوراق بنهاية حياتي".

قبل هذا التاريخ بأشهر كان قد أرسل حزمة الأوراق هذه الى مجلة"نيوفي مير"، فاعيدت إليه بعد مدة قصيرة مع رسالة قصيرة بالاعتذار عن النشر لأن أبطال روايته"غارقون في فردية شبه مريضة لايعرفون ما حولهم، ولا يريدون أن يروه"، يرسل لهم رداً يقول فيه :"إن روايتي ستكون التعبير الحقيقي عن نظرتي إلى الفن وإلى الإنجيل... إلى الحياة وإلى موقع الإنسان في التاريخ"، بعدها بأيام تصله رسالة من أحد المعارف يحذره فيها من نشر حزمة الورق هذه :"لقد كتبت رواية سياسية خالصة، ذات قضية، ووجهتها لخدمة بعض القضايا السياسية،..ان روايتك مثيرة وسيعتبرها البعض ظالمة تجاه الثورة".
كانت مجلة العلم التي يصدرها اتحاد الكتّاب السوفيت قد نشرت عشر قصائد قدمت على أنها قصائد شعرية من رواية"الدكتور جيفاكو"، وقد قدمت المجلة القصائد بأنها :"جزء من الرواية التي ستنشر قريباً،وتقع أحداثها بين 1903-1929، بطلها يوري جيفاكو طبيب ورجل فكر يبحث عن الحقيقة، وهو ذو أتجاه فني خلاق، يموت عام 1929 وقد عثر بين أوراقه المكتوبة في أيام شبابه على عدد من القصائد التي سوف تلحق بالرواية كفصل نهائي، هذه القصائد المنشورة هنا، هي بعضها". وما إن ظهرت القصائد للنشر حتى أثارت حفيظة الكثيرين، فصدر قرار بالتريث في نشر الرواية.
“ولِدتُ قبالة مدرسة قديمة في يوم بارد من شهر شباط 1890، ولا تزال برودة هذا اليوم تلاحقني، بقيت في الذاكرة بصورة غامضة بعض الأشياء القليلة من النزهات الخريفية مع المربية".هكذا يتذكر بوريس باسترناك الأيام الاولى من حياته، كان أبوه رساماً معروفاً، يلقي محاضرات في اكاديمية موسكو للفنون، وكانت أمّه تقضي أمسياتها بعزف مقطوعات لشوبان وتشايكوفسكي على البيانو، في ذلك البيت القديم، شاهد تولستوي للمرة الأولى، حين زارهم صاحب الحرب والسلم برفقة بناته، ليتحدى الأب ليونيد في لعبة الشطرنج، وليستمع الى معزوفات تقدمها صاحبة البيت يكتب باسترناك في يومياته :"أما صورته فقد عبرت حياتي كلها كصورة معظم الناس خاصة لأن أبي احتفى به، لأنه كان يمضي لرؤيته، لأنه كان يجله، ولأن روحه اخترقت بيتنا كله.كان ليف نيكولاييفيتش تولستوي"
في طفولته يتعرض لحادث يتسبب في كسر خطير في رجله اليمنى، وبعد اجراء عملية جراحية له اتضح إنها أثرت على ساقيه أصبحت ساقه اليمنى أصغر من اليسرى فعانى من العرج، وقد أدى ذلك الى إعفائه من الخدمة العسكرية، في طفولته كان ميالاً الى الصوفية وأسير السحر الديني :"آمنت بوجود عالم بطولي أعلى، يجب أن يُخدم بحماسة، مهما كان يحمل من آلام.كم من مرة في سن السابعة أو الثامنة، كنت على وشك الانتحار"يسافرعام 1906 الى برلين مع والديه اللذين قررا أن ينقلا دراسته من جامعة موسكو الى جامعة ماربوغ في المانيا، حيث سيدرس الفلسفة كتب بعد ذلك أن قراءته لـ"كانط وماركس"كان لهما"الأثر المسكر للتحرر المباشر"، في ألمانيا سيتذكر المقطوعات الموسيقية التي كانت تعزفها أمّه كل مساء وسيكتب أولى قصائده التي يتذكر فيها طفولته :"آه، أنّى ليَ الهربُ من خطواتِ معبودي".
في برلين يعثر بين أوراق والده على قصيدة للشاعر الروسي ألكسندر بلوك
لقد وجد نفسه وجها لوجه أمام شاعرصوفي من طراز خاص، حيث كان هذا الشاعر يمثل حداً فاصلاً في حياة باسترناك، في"رسم السيرة الذاتية"يصف لنا باسترناك شعوره وهو ينتهي من قراءة الورقة التي كُتبت فيها أبيات ألكسندر بلوك بقوله :"إن الذي يظهر لي هو أن الشاعر كان يخاطبني أنا شخصيا بالذات، كما لو كنت أراه أمامي فعلاً، كانت الورقة تحوي على حداثة أكيدة،وكان يبدو أن الحداثة ذاتها دون إذن تقع على الورقة المطبوعة، وإن الأشعار لم يكتبها أحد.وكان يبدو أن الصفحة لم تكن مغطاة بأبيات عن الريح والغدران، المصابيح والنجوم، لكن المصابيح والغدران نفسها تسوق تموجاتها فوق سطح الورقة، وهي نفسها كانت تترك آثارها عليها ندية وقوية".
في عام 1914 ينشر ديوانه الأول بعنوان"تؤام في الغيوم"وسيحظى هذا الديوان بتقدير ستالين وسينقذه بعد سنوات من تقارير رجال الأمن، حين يكتب ستالين على تقرير قدم ضد الشاعر :"لا تلمسوا ساكن الغيوم هذا"..ومنذ نشره هذا الديوان أعلن باسترناك نفسه ناطقاً باسم الطبيعة، وتعكس لوحات الطبيعة في أشعار باسترناك جانباً من شخصية الشاعر، وتجسد ملمحاً من ملامح رؤيته العالم يكتب الى والدته :"وجدت في الشعر أفضل وأروع هواء لأتنفسه،"يضع ديوانه الثاني"أختي الحياة"، وفيه يقدم تصوره الفلسفي للإنسان والكون ويصف الأحداث العاصفة التي تمر في بلاده – صدر الديوان عام 1917 -، ونجده يتجه الى مناجاة الطبيعة التي كانت تبدو له"تشارك الناس في الأحداث"، ويكتب الى الشاعر ألكسندر بلوك رسالة يؤكد له فيها تأثير الشاعر عليه :"سترى إنني أحاول في كل قصيدة أن أعبر لك عن امتناني على ما أفدتني إياه،". ويتلقى رسالة من مكسيم غوركي يكتب له فيها :"لا أخفيك أبداً كنت دائماً اقرأ أشعارك قبل هذا الديوان في توتر، ذلك لأنها تكتظ بالصور الغريبة، وهذه الصور ليست دائما مفهومة لي، وكان خيالي يجد صعوبة في استيعاب التعقيد الجامح لملامح صورك..أما في أشعارك الأخيرة فأنت أكثر بساطة، واقتصاداً وكلاسيكية في هذا الكتاب الذي يمتلئ بالحماس ويؤثر في ّ وفي القارئ في سرعة ويسر وقوة، إنه بالطبع اجتماعي في أفضل وأعمق معنى لهذا المفهوم".
******

نيويورك تحرق كتب جون شتاينبك

نصحه أصدقاؤه بمغادرة نيويورك، فالناس ثائرة وتريد أن تحرق روايته"عناقيد الغضب"أمام باب بيته، فيما حذّره صديق من محاولة اغتيال يدبرها له عدد من ملاك الأرضي الزراعية لانه بالغ في فضح تعسفهم، حيث كان وصفه مؤلماً لأحوال الفلاحين. فكر أن يذهب للعيش في كوخه القديم المليء بالحشرات لكي يشحذ موهبته من جديد ضد المستغِلين، سيعود من جديد الى حياة الفقر، ويتذكر إنه كان يتسلم مبلغاً شهرياً من أبيه رجل الأعمال لكي ينفق على أسرته. ولهذا هو يفضل العيش برفقة المتشردين والعمال. كان في العشرين من عمره آلة كاتبة، وكتب ممازحاً أحد أصدقائه إنه سيكتب رواية تجلب له الذهب. كان أنهى للتوّ كتابه الأول، وحفّزته والدته التي كانت تقرأ له روايات الفروسية. يكتب شتاينبك تعليقاً على رغبة سكان نيويورك حرق روايته"عناقيد الغضب":"إنهم يرفضون مواجهة الواقع، ولا يريدون أن يدركوا أن هناك نوعاً من البشر وقع عليه ظلم كبير بسبب الجشع وحب المال"كان جون أرنست شتاينبك المولود في السابع والعشرين من شباط عام 1920 الابن الوحيد في العائلة مع ثلاث شقيقات أكبر منه، ولهذا تلقى عناية خاصة من والدته التي كانت تعمل في مجال التعليم، ورغم إنه كان يقضي وقته في القراءة إلا أنه أحب أن يجرب العمل في كل المهن، فمرة نراه عاملاً بالأجرة في أحدى المزارع القريبة من بيته، ومرة مساعداً لموظف البريد، وفي الثانوية أصّر أن يعمل في أحد مصانع السكر، وكثيراً ما كان يناقش زملاءه حول الأشتراكية، لكنه في العام 1925 قرر أن يترك جميع المهن ليصبح كاتباً، فسافر الى نيويورك يجرب حظه، وبعد أربع سنوات يصدر أولى كتبه"كأس من ذهب"في آب عام 1929، ورغم أن هذه الرواية لم تكن محاولة شتاينبك الأولى، فقد جرّب قبلها كتابة ثلاث روايات، إلا إنها الرواية الأولى التي سجلت اسمه في سجل الكتاب الخالدين، رغم أن شتاينبك كتب بعد سبع سنوات على صدورها إنه لم يكن فخوراً بها. في كأس من ذهب يروي شتاينبك حكاية الفتى الذي يحلم بالانطلاق في عرض البحر والانضمام الى القراصنة، وعندما يصل إلى الميناء يخدعه صديقه ويبيعه باعتباره عبداً، إلا أن الفتى يصر على تحقيق حلمه، وما أن تحين الفرصة حتى ينضم الى مجموعة من القراصنة يصبح هو زعيمهم، ويطمح بالاستيلاء على مدينة بنما"كأس الذهب"حيث يصبح حاكماً لها وغير اسمه إلى السير هنري مورغان، وعندما سأل شتاينبك عن روايته هذه قال، أردت أن أتخذ من فاوست مصدراً جيداً لروايتي هذه.
في العام 1939 يكتب شتاينبك واحدة من أفضل ما أنتجه الأدب الأميركي في القرن العشرين، رواية"عناقيد الغضب"وفيها يروي حكاية عائلة أميركية يمزقها الفقر واليأس في أعوام الكساد الاقتصادي الذي هز الولايات المتحدة الأميركية في ثلاثينيات القرن الماضي.
وقد كتب شتاينبك في يومياته إنه استطاع أخيراً أن يكتب العمل الذي كان يطمح إليه طوال حياته حيث يجد القارئ نفسه بمواجهة رواية تتحدث عن الأوضاع الاجتماعية القاسية للفلاحين، حيث يصور شتاينبك الأحداث كما جرت، ونجده يعتمد على عدد من المقالات الصحفية التي كتبت عن هجرة العمال الى كاليفورنيا.
يكتب في يومياته :"لقد أردت أن أضع لطخة من العار على أبناء الزنا، المسؤولين عن أعوام اليأس". قضى خمسة أشهر متواصلة في كتابتها :"لم أجهد نفسي قط في حياتي ولم أكتب هذا العدد من الصفحات"، واختار لها عنوان عناقيد الغضب لأنه يشير الى الحالة الثورية، وفي 26 أيلول عام 1938، يضع كلمة النهاية بأحرف كبيرة، ثم كتب في يومياته"انتهى هذا اليوم وآمل من الله أن يكون جيداً".
خرجت"عناقيد الغضب"من المطبعة في 14 نيسان 1939، لتتحول الى الرواية الاميركية الأكثر قراءة وشهرة والأكثر إثارة للجدل، في القرن العشرين تمت مناقشتها في الراديو، كما هاجمها القراء الغاضبون، بل إنها منعت من قبل بعض المكتبات، ورابطة الفلاحين في كاليفورنيا، كانت ضدها أيضاً وقالت إنها"حزمة من الأكاذيب"، لكن الرواية لقيت الترحاب من قبل بيرل باك، مؤلفة"الأرض الطيبة"التي خاضت معارك في الصحافة للدفاع عن شتاينبك. بيعَ منها نصف مليون نسخة في سنتها الأولى، وفي العام 1940 نالت الرواية جائزة البوليتزر وتم تعميم قراءتها في المدارس والمعاهد والكليات في كافة أرجاء الولايات المتحدة الأميركية، وعندما منح شتاينبك"جائزة نوبل"للأدب عام 1962، أعلنت اللجنة"إن عناقيد الغضب عمل كبير".
*******

لاتحمّلوني اكثـر من طاقتي

في صباح يوم الثاني عشر من كانون الثاني عام 1958 ذهب رجل يبلغ من العمر ثمانية وستين عاماً باتجاه دائرة البريد ليرسل برقية كتبها بقلم الرصاص معنونة الى الاكاديمية السويدية :"أراني مضطرا الى أن أرفض الجائزة التي منحت لي دون أن استحقها بسبب المعنى الذي فهم من هذا المنح، في المجتمع الذي أعيش فيه : ارجو ألا تحملوا رفضي محملأ سيئا"، كان قبل أربعة أيام من هذا التاريخ قد ذهب إلى نفس دائرة البريد ليرسل الى الاكاديمية السويدية نفسها برقية بعد أن وصل إليه خبر حصوله على جائزة نوبل للآداب :"إنني شاكر جداً، وفخور، وممتن، ومندهش، وخجول"، ولم يكن يدري أن حصوله على الجائزة سيضعه في مواجهة السلطة التي وجدت في"الدكتور جيفاكو"رواية سيئة عن الثورة الاشتراكية كتبها روائي يحن الى البرجوازية.في هذه الأثناء قرر اتحاد الكناب السوفيت فصل باسترناك من عضويته، الأمر الذي دفع البير كامو أن يكتب :"ليس هذا الكاتب العظيم معادياً للسوفيت، إنه يعيد للرواية الملحمية مجدها الذي فقدته بغياب تولستوي".كانت حزمة الورق الملفوفة بصحيفة قديمة قد وصلت الى إيطاليا لتصدر في روما في 15 تشرين الأول عام 1957، تبدأ أحداث الرواية في منطقة الفولغا سنة 1903 بجنازة ماريا، أم الصبي يوري جيفاكو، التي هجرها زوجها، أندريه جيفاكو، وبدّد ثروة العائلة في القصف والعربدة. ويتولى رعاية الصبي عمه كوليا ونيكولاي نيكولافيش، وهو كاتب صحفي تقدمي.
وفي أحد أيام الصيف يسافر نيكولاي ومعه يوري، إلى بلدة دوبليانكا لزيارة صديقه إيفان في المزرعة التي يملكها كولاغريفوف، وهو تاجر ثري لديه ابنتان: ناديا وليبا. يلهو يوري معهما ثم يتعرف على الصبي ميشا، الذي ينتحر والده المخمور ويرمي نفسه من عربة القطار. وبعد تلك الزيارة، يرسله نيكولاي إلى موسكو ليقيم مع عائلة غروميكو ويتابع دراسته، فيتعرف على تونيا غروميكو.
وفي سنة 1904، تندلع الحرب الروسية اليابانية، وتنزح آماليا مع ابنها روديا وابنتها لارا، من يورياتين في جبال الأورال إلى موسكو. تعمل بنصيحة صديق زوجها السابق، المحامي كوماروفسكي، وتوظف مالها في متجر لبيع الألبسة ثم تسكن في شقة فوق ذلك المتجر.
يتودد إليها المحامي ويتخذها عشيقة، ثم يغوي ابنتها لارا ويعاشرها من وراء ظهرها. تنزعج لارا من كوماروفسكي، فتهرب من المنزل وتعمل مربية للصغيرة ليبا كولاغريفوف. وهناك تتعرف على باشا، الشاب المنكوب، الذي قاد والده الإضراب في محطة سكة الحديد في موسكو، واعتقله البوليس ثم نفاه من موسكو. فتتعاطف معه وتحبه ثم تصمم على ترك عملها والزواج به.
يقابلها يوري بالصدفة مرتين. الأولى سنة 1906 حين تحاول والدتها الانتحار بالسم، ويترك جارها عازف الفيولونسيل الحفلة الموسيقية ويُسرع لإنقاذها، وكان اللقاء في المرة الثانية سنة 1911، بعد التحاقه مع تونيا وميشا بكلية الطب، في حفلة الميلاد الراقصة. إذ تطلق لارا النار على كوماروفسكي، فتصيب النائب العام بجرح طفيف.
أثناء ذلك، يتخرج يوري ويتزوج تونيا ويعمل طبيباً في الجيش،تصيبه قذيفة مدفعية بجروح، ويُنقل إلى المستشفى الميداني حيث تعمل لارا. تعتني لارا به، فيشعر بالامتنان والحب لها، لكنها لا تبادله المشاعر. ثم تصل الأخبار بقيام الثورة وتنشق الوحدة العسكرية المحلية عنها.
يودع يوري لارا وداعاً عاطفياً، ثم يركب القطار عائداً إلى موسكو، وتعود هي إلى يورياتين. بعد أيام تبدأ الحرب الأهلية وتصبح الحياة خطيرة وصعبة جداً في موسكو. يلجأ مع عائلته إلى المزرعة، التي يملكها جد زوجته، وينعم هناك بالهدوء ليتفرغ لكتابة الشعر.
يزور المكتبة العامة في يورياتين، ويصادف لارا هناك. يتودد إليها من جديد ويرتبطان بعلاقة حميمة. بعد شهرين يشعر بالندم ويصمم على الاعتراف لزوجته بالخيانة وطلب الصفح منها. بعد شهور، يسلمه أحد الرجال رسالة من زوجته، انتقلت من يد إلى يد حتى وصلت إلى يورياتين. وتخبره فيها أن الثوار نفوها مع طفليها ووالدها من موسكو إلى باريس، لأن جدها أحد أقطاب صناعة الفولاذ. وعندما ينتهي من قراءة الرسالة، يشعر بالألم في صدره ويصاب بالإغماء.
يُعين المحامي كوماروفسكي وزيراً للعدل في الحكومة الجديدة، ويحاول مساعدة يوري ولارا على الهروب إلى الغرب، فيرفضان. يحذرهما من الخطر المحدق بهما، وأنهما معرضان للاعتقال والاستجواب في أية لحظة.
يُقنع يوري لارا بالذهاب مع كوماروفسكي، على أن يلحق بها. ثم يعود إلى موسكو ويسكن مع مارينا، ابنة عائلة صديقه وأم لولدين. وهناك يكتب الشعر ويبحث عن عمل. وعندما يجد عملاً مناسباً، تصيبه أزمة قلبية ويموت. بعد مدة تموت لارا في أحد معسكرات الاعتقال.
يوري الطبيب الذي يعشق الفلسفة، ككان يريد ان يكتب كتاباً يخفيه"مثل عصي الديناميت، يروي فيه أبرز الأشياء التي شاهدها، فهو مثل باسترناك ينتمي إلى جيل عاش الكثير من المحن، حربين عالميتين، حرب أهلية، ثورات، مجاعة، تطهير.
في نهاية عام 1957 سلمت دائرة للمخابرات البريطانية في موسكو، فيلمين على بكرتين صغيرتين، إلى عملاء في وكالة الاستخبارات الأميركية. لم يظهر في الفيلمين صور لطائرة حربية سوفيتية جديدة أو صاروخ باليستي جديد. ظهرت صور لسلاح أقوى منهما في الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن، انها صوراً فوتوغرافية لصفحات من رواية باسترناك الدكتور جيفاكو، لغرض استخدامها أداة لتشجيع المعارضين وإثارة الانشقاق داخل الاتحاد السوفييتي.
ومؤخرا تم الكشف عن أكثر من 100 وثيقة رفعت عنها السرية في الولايات المتحدة حيث نتعرف من خلالها كيف قامت وكالة المخابرات المركزية بطباعة نسخ باللغة الروسية من رواية"دكتور جيفاكو"أثناء الحرب الباردة في محاولة لزرع الاضطراب بين المواطنين السوفييت.
في مقتطفات من جريدة الواشنطن بوست، يشرح المؤلفون كيف أن وكالة المخابرات المركزية اعترفت بقيمة الرواية كسلاح أدبي في الحرب الباردة.
وقد كتب احد ضباط المخابرات الاميركية البارزين :"هذا الكتاب له قيمة دعاية عظيمة، ليس فقط لرسالته الذاتية وطابعه المحفّز للفكر، ولكن أيضاً لظروف نشره، لدينا الفرصة لجعل المواطنين السوفييت يتساءلون ما هو الخطأ في حكومتهم، عندما يكون عملاً أدبياً رائعاً من جانب الرجل الذي اعترف بأنه أكبر كاتب روسي حي لم يكن متوافرا حتى في بلده بلغته الخاصة ليقرأها شعبه".
يطرح هارولد بلوم سؤالا مهما هل كتب باسترناك رواية"الدكتور جيفاكو"لاستخدامها في الحرب الباردة، باعتبارها وثيقة ضد النظام السوفيتي، يجيب بلوم : لقد كتب باسترناك روايته وفي ذهنه حلم واحد فقط ان يضع نفسه كوريث لدوستويفسكي وتولستوي. كان يحاول أن يكتب الرواية الروسية العظيمة"ظلت الدكتور
بقيّ باسترناك في روسيا حتى وفاته عام 1960 عن عمر يناهز السبعين بعد معاناته من مشاكل في القلب وسرطان الرئة، فيما رفع المنع عن روايته في الاتحاد السوفيتي بعد ان تولى غورباتشوف السلطة 1988، يكتب طه حسين في مقال نشره بمجلة الكاتب المصري عام 1959 :"
لست أعرف كاتبًا روسيًا معاصرًا صوَّر قسوة الطبيعة كتصويره، ولا أعرف كاتبًا آخر صوَّر مثله جمال الطبيعة حين يقبل الربيع وتشرق الشمس وتعود الحياة إلى كل شيء إلا إلى هذه النفوس الوَجِلة، التي لا تفكِّر، أو لا تكاد تفكر إلا في مصاعب الحياة ومشكلاتها، وفي هذا الموت الذي يوشك أن ينقضَّ عليهم فيختطف منهم عائلًا أو حبيبًا.. ولا أذكر أني قرأت تصويرًا لحركة الجماعات في الخوف والأمن، وفي السُّخط والرضا كما قرأته في هذه القصة، ولا أعرف أحدًا غيره وصف حياة الهاربين في القطارات، التي تمضي بهم لا تقف حتى ييأسوا، أو يوشكوا أن ييأسوا من حركتها، وهم مع ذلك يهربون من الموت أو مما يشبه الموت".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

مقالات ذات صلة

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة:  صفقة مع الخطر
عام

الاعتياد على مسالك الحياة السهلة: صفقة مع الخطر

ألِكْس كورمي* ترجمة: لطفية الدليمي بينما أكتب الآن هذه الكلمات يرسلُ هاتفي النقّالُ بطريقة لاسلكية بعضاً من أعظم ألحان القرن الثامن عشر (مؤلفها الموسيقار العظيم باخ لو كنت تريد معرفة ذلك!!) إلى مكبّر الصوت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram