TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البرج العاجي: انطباعية "مونيه" وفن العمارة

البرج العاجي: انطباعية "مونيه" وفن العمارة

نشر في: 21 أكتوبر, 2018: 07:01 م

 فوزي كريم

قرابة 80 لوحة انطباعية من "مونيه"، معظمها يُعرض لأول مرة في لندن، تتزاحم في سبع قاعات في متحف National Gallery. المعرض بعنوان "مونيه والعمارة". وانطباعية "مونيه" (1840-1926) هذه اللوحات مكرسة للمشاهد الطبيعية التي تضم أثراً معمارياً مُلفتاً للنظر، أو تنصرف لأثر معماري بعينه. ظل "مونيه" قرابة خمسين سنة من حياته الانتاجية، بدءاً من 1860 حتى قرابة 1910، يستخدم العمارة إلى جانب المنظر الطبيعي كوسيلة لبناء لوحته.
لوحات "مونيه" مناسبة لفاتحة موسم الصيف اللندني، بالرغم من مناخه المضطرب. لأن شوارع المدينة وحدائقها عامرة بدرجات الخضرة التي لا تُحصى، مطرزة بألوان الأزهار التي لا حدود لعددها. والخضرة والألوان تعكسان بدرجاتها تقلبات الجو، ومن ثم تقلبات الضوء المنعكس عليها. تماماً مثل لوحات "مونيه" للمشاهد الطبيعية. فأنت تدخل المعرض وتخرج بحساسية عين مرهفة إزاء الضوء وانعكاساته على الأشياء والأحياء. لأن هذه الرهافة بشأن الضوء إحدى أكبر مميزات لوحة "مونيه" الانطباعية. والمعرض درس في هذا الحقل: الضوء، وسيادة الزمن على حركة هذا الضوء، وبالتالي على تدرج قوته وضعفه. كان "مونيه" مأخوذاً بهذا الجانب. فكل شيء في لوحته الانطباعية يتحرك: البحر يتحول، الأشرعة تميل، السحب تندفع، النهر يعكس ما يُطل عليه. في عام 1892 تحول من المنظر الطبيعي ومن حزم التبن وأشجار الحور في الريف إلى مبنى الكاتدرائية الثابت، الضخم و الدائم في المدينة. "مونيه" يحدد هدفه، وقد درب عينيه على رؤية جديدة ومختلفة، بقوله في واحدة من رسائله: " سيكون من المثير للاهتمام دراسة الموضوع نفسه في أوقات مختلفة من اليوم لاكتشاف تأثيرات الضوء الذي يغير مظهر وألوان المبنى، من ساعة لساعة وبطريقة بالغة الخفاء."
"مونيه" فنان طبيعة دون شك، وليس فنان حجارة وجدران. ولكنه أحال العمارة إلى مختبر دراسة للون والضوء والتحول، وهي عناصر في الطبيعة. إنه في هذا "يبحث عن المستحيل"، على حدّ تعبيره: " يبدو لي أني أحاول جهداً عابثاً، لا ينجز خطوة واحدة للأمام مطلقاً، خاصة وأني أكتشف كل يوم أشياء لم أرها في اليوم السابق... باختصار إنني لا أستطيع أن أنجز أي شيء مقبول." "مرهق وما علي إلا أن أتنازل، فإني تحت ضغط كوابيس تمنع عني النوم، فالكاتدرائية تنهار علي، زرقاء أو وردية أو صفراء..".
معاناة كهذه تذكرني بمعاناة الرسام الهولندي "ﭭان كوخ". على أن مصدر المعاناة بينهما مختلف في الجوهر. وسوسة "كوخ" تأتية من ارتباك نفسي داخلي بالغ العنف، ينفرد باللون والحركة على الكانفس، في حين وسوسة "مونيه" مصدرها فني/ بصري، إن صح التعبير، يرتسم على تحولات الضوء وأثرها على الأشياء. كوابيس الأول من الداخل، وكوابيس الثاني من قلق البحث في تحولات الضوء. على أن المعاناتين مسعيان نبيلان للسمو.
في صالة العرض الأولى نقع على أول افتتان "مونيه" بفن العمارة في فرنسا، ثم في هولندا، عند زيارته لها في العامين 71 ـــ 1873: البيوت الملونة، طواحين الهواء والمباني التاريخية. وفي الصالة الثانية يواصل "مونيه" ملاحقة العمارة في "نورماندي" الفرنسية، وفي الثالثة ينحدر إلى فرنسا البحر المتوسط حيث الضوء. الصالتان التاليتان مكرستان إلى المدينة وما تنطوي عليه من معنى الحداثة. فهو يزور لندن. كما يزور مدينته Rouen لهذا الغرض. ولكن في زيارة لاحقة لمدينة لندن، حيث يطلّ من شرفته في فندق "ساﭭويْ" على النهر ومبانيه وجسوره، يدخل "مونيه" مرحلة ما يسميه المعرض "الغموض" الذي يتولد من هذا البحث الدائب عن مؤثرات تحولات الضوء في المناخ المضبب. في 1908 زار "مونيه" مع زوجته "أليس" مدينة "ﭭينيسيا" المائية، وفي شهري الزيارة وضع 37 لوحة، عرضت منها الصالة السابعة والأخيرة 9 لوحات. كان الضوء في هذه المدينة "فريداً" بالنسبة له، بفعل الماء الذي يحتضن كل مبنى، ويُضيء بدوره.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

العمودالثامن: في محبة فيروز

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram