شاكر لعيبي
- 1 -
كثُر حديث بعضهم المتأخر، في العراق خاصةً، عن فرضية العلاقة المِثليّة بين جلجامش وأنكيدو. فما الذي يسمح بذلك؟
نعرف أن الفرضيات الجنسية والمثلية والسحاقية في أوربا نفسها في تأويل الفكر والتاريخ والميثيولوجيا، أمر حديث نسبياً. لعلها وجدتْ مظهرها الأعلى في تحليلات سيغموند فرويد. وقد نشاطر قسماً من هذه التأويلات، شرط استقامتها مع السياق التاريخيّ والثقافيّ والنصيّ. تلك التأويلات رمزية بالأحرى، خاصة عندما يوجد في النص نفسه ما يُبرّرها. بالنسبة لعلاقة أنكيدو بجلجامش يتعلق الأمر بسياق وجودي: (فكرة الخلود) التي تُنَحّي بضربة واحدة التأويل المثليّ الذي يصير والحالة هذه ضرباً من "الثقافوية" التي توحي بأنها تستند على أساس "أوربيّ" متين. لا أساس نصيّ - رمزيّ لهذا التأويل، مهما كان قائله. هنا مثلاً السياق الوجوديّ لتلك العلاقة:
"فتح جلجامش وقال لانكيدو :- - يا صديقي، من ذا الذي يستطيع أن يرقى إلى السماء - الآلهة وحدهم هم الذين يعيشون إلى الأبد مع (شمش) - أما البشر فأيامهم معدودات - وكل ما عملوا عبث يذهب مع الريح - لقد صرت تخشى الموت ونحن ما زلنا هنا - فماذا دهى قوة بطولتك - دعني إذن أتقدم قبلك وليناديني صوتك: - تقدمْ ! ولا تخفْ!) - وإذا ما هلكت فسأخلد لي اسما، [وسيقولون عني] - من بعد أن تولد الأجيال الآتية فيما بعد - لقد هلك جلجامش في نزاله مع خمبابا المارد…"
وفي الشعر العربي اللاحق هناك مثل هذه العلاقة كثير جداً: "بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا" (امرؤ القيس)، أو: "أقول لأصحابي ارفعوني فإنّه - يَقَرُّ بعينيْ أنْ (سُهَيْلٌ) بَدا لِيا" و"فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا - برابيةٍ إنّي مقيمٌ ليال" (مالك بن الريب). ولعل هذا التقليد الشعري، موصول بتقاليد أقدم قد يكون مقطع الملحمة أعلاه منه.
لا تنسَ أيضاً في هذا السياق أن الرجلين كانا أعداء تقاتلا أشدّ القتال البطوليّ، بداية الأمر ولم يكونا، منذ البدء، صاحبين.
كما أن هذا السياق لا يُبرّر التفكير، للحظة، بأن رفض جلجامش الزواج (اقرأ ممارسة الجنس بالأحرى) من عشتروت كان بسبب مثليّته الدفينة، فهذا لا يستقيم قَطُّ مع المُبرّر القويّ الذي قدمه البطل: "وحاولت إغراء جلجامش بالزواج منها فرفض وقال: لديكِ عدة مغامرات عاطفية مع رجال كثيرون آخرهم بستاني أبيك "إيشو لنو".
"مغامرات عاطفية" = مغامرات جنسية. وهو تبرير كانت المُدوَّنة القانونية والأخلاقية والعائلية لا تقبله. المدوّنة معروفة ومترجمة ومنشورة.
من جهة أخرى، لو كانت سيدوري صاحبة الحانة تعرف أن جلجامش مِثليّ لما قالت له: (دللْ صغيرك الذي يمسك يدك، واسعدْ زوجتك بين أحضانك: هذا نصيب البشر في هذه الحياة).
لعل المبرّر النصيّ الأعظم لتأويلات الأوربيين ومقلّديهم العرب متّصل ببداية تعرُّف البطلين بعضهما على بعض، وذلك عندما شاهد جلجامش (أنكديو يرعى الكلأ مع الغزلان، يردّ الماء مع الحيوان، ويجري يسابق الريح، ويخلص الحيوانات من فخاخ الصيادين الذين كانوا يعيشون على الصيد. فقام الصيادون برفع شكواهم إلى الملك جلجامش..). يتعلق الأمر بشكوى مهنية. فما الذي حدث؟
"فأمر جلجامش إحدى خادمات المعبد وإسمها شمخات Shamhat
بالذهاب ومحاولة إغراء إنكيدو ليمارس الجنس معها
وبهذا تبتعد الحيوانات عن مصاحبة إنكيدو ويصبح مُروَّضاً ومدنياً
حالف النجاح خطة جلجامش وبدأت خادمة المعبد بتعليم إنكيدو الحياة المدنية
ككيفية الأكل والشرب واللبس ثم بدأت بإخبار إنكيدو عن قوة جلجامش
وكيف أنه يدخل بالعروس قبل أن يدخل بها زوجها. ولما عرف إنكيدو بهذا قرر أن يتحدى جلجامش في مصارعةٍ، ليجبره على ترك تلك العادة. فيتصارع الاثنان بشراسة…."
التأويل إن تحدّي أنكيدو بهدف إجبار جلجامش بالتخلى عن عادته، فُهِم بأنه إيذان بعلاقة جنسية بين الرجلين. والحال أن المدوّنة الرافدينية تحدد شروطاً صارمة للزواج وامتلاك الجواري ومواقعتهن، لم يكن جلجامش يحترمها على ما يبدو. تحدَّى أنكيو بطلنَا لأنه اخترق القانون الرافدينيّ من جديد، وليس لأنهما وقعا بغرام بعضهما.
يتبع