د. ضياء نافع
نعم , جلستُ فعلاً جنب ناتاليا غانجيروفا , زوجة بوشكين , على مصطبة واحدة , وكانت في أحلى وأجمل حلّتها , وهي تنظر الى الأرض وتصغي بتأمل وهدوء لقصيدة يلقيها عليها زوجها الشاعر الروسي بوشكين , الذي يقف أمامها . جلست أنا جنبها بهدوء أيضاً كي لا أزعجها وهي تستمع الى زوجها الذي كان يرفع يده اليسرى عالياً و هو يقرأ إحدى قصائده لها خصيصاً , جلستُ بهدوء وبدأت أنظر الى بوشكين وأصغي إليه , ولم ألتفت الى ناتاليا , كي لا يدعوني زوجها بوشكين للمبارزة , مثلما دعى دانتيس , فأنا لا أقدر( ولا أريد) أن أبارز بوشكين وأقتله مثلما فعل دانتيس , ولا أقدر (ولا أريد) أن أبارزه وأدعه يقتلني , وهكذا بقيت جالساً على المصطبة في موقعي ومحافظاً على الهدوء دون أن أنظر إليها , كي لا أثير ردود فعل زوجها المشهور بالغيرة...
لم يحدث كل ذلك في المنام , كما قد يظن بعض القراء , وانما حدث في مدينة بودغوريتسا , عاصمة جمهورية الجبل الأسود , أو (مونتينيغرو) كما يسمّيها الأوروبيون , وهي احدى الجمهوريات الصغيرة ( سكانها 620 ألف نسمة لا غيرحسب آخر إحصاء للسكان لديهم) التي انبثقت في البلقان بعد انهيار دولة يوغسلافيا الاتحادية كما هو معروف , وقد تمّ إعلان جمهورية الجبل الأسود في العام 2006 ليس إلا , والتي تعدّ في الوقت الحاضر أقرب الجمهوريات روحيّاً ( مع صربيا) الى روسيا الاتحادية ثقافياً وعقائدياً ( إذ أن اكثرية سكانها هم من الارثذوكس ), بل إنها حتى كانت – في مرحلة من مراحل تاريخها البعيد – جزءاً من الامبراطورية الروسية قبل تأسيس الاتحاد السوفيتي بفترة طويلة جدا, وهناك وقائع و وشائج تاريخية كثيرة مشتركة بين روسيا والجبل الأسود , لا يمكن الحديث عنها هنا بتفصيل.
وفي تلك الجمهورية , وفي عاصمتها , شاهدت نصباً طريفاً جداً لبوشكين من البرونز , وهو يقف ويرفع يده اليسرى و يقرأ شعراً لزوجته الجالسة أمامه على مصطبة , ويأتي المشاهدون ويجلسون جنبها , ويلتقطون الصور التذكارية معها ومع بوشكين , الذي لا ينظر إليهم , ويستمر بالقاء القصيدة لها . وهكذا جلست أنا أيضاً جنبها على تلك المصطبة, وحاولت الاستماع معها الى قصيدة بوشكين...
النصب الجميل هذا قدمته حكومة موسكو المحلية هدية الى عاصمة الجبل الأسود – بودغورستا عندما وقّعت المدينتان اتفاقاً بينهما , وتم تدشين هذا النصب المدهش والرائع العام 2002 , وأصبح يمثّل معلماً سياحياً وثقافياً متميّزاً من معالم تلك المدينة , ويقع في مركزها , وقد تمّ نصبه بمستوى الشارع تقريباً , بحيث يقدر المشاهد أن يختلط مع بوشكين وزوجته ببساطة , بعد أن يصعد درجتين عن الشارع ليس إلا , والنصب يقف على منصة دائرية , ويتكون من تمثال كامل لبوشكين وهو يقف أمام مصطبة , حيث تجلس زوجته ناتاليا غانجيروفا , وفوقها يوجد قنديل بنكهة القرن التاسع عشر . والنصب هذا محاط بأشجار باسقة وخلفية خضراء تضفي على النصب جمالاً خاصاً , وأمام النصب توجد لوحتان حجريتان , الأولى مكتوب عليها بالروسية , إن هذا التمثال هو هدية من مدينة موسكو الى مدينة بودغوريتسا , ومكتوب على اللوحة الثانية مقطع من قصيدة بوشكين عن سكان الجبل الأسود , ويقول فيها بوشكين , إن نابليون بونابارت سأل مرة من هم هؤلاء , وهل صحيح- فعلا- إنهم لا يخشون قواتنا وقوانا؟ وهي قصيدة تمجّد شجاعة سكان الجبل الأسود . ومن الطريف الإشارة هنا , الى أن جمهور واسع من سكان العاصمة بودغوريتسا ( بما فيهم مسؤولون كبار ) يجتمعون عند هذا النصب يوم ( 6 ) حزيران من كل عام للاحتفال بيوم ميلاد بوشكين , وكذلك للاحتفال باليوم العالمي للغة الروسية , والذي اعلنته الحكومة الروسية رسميا في يوم ميلاد بوشكين بالذات , ولم يأت هذا الإعلان طبعا بشكل عفوي , إذ أن بوشكين – كما هو معروف - يعتبر واضع أسس اللغة الروسية الأدبية الحديثة , ويعدّ ابداعه قمة تطور هذه اللغة و النموذج المثالي لها.
تمثال بوشكين وزوجته ناتاليا غانجيروفا في عاصمة جمهورية الجبل الأسود يعدّ واحداً من أجمل تماثيل بوشكين في العالم ( انظر مقالتنا بعنوان – تماثيل بوشكين في العالم) , ويؤكد مرة أخرى , أن بوشكين هو رمز روسيا الخالد وممثلها الشعبي أمام بلدان العالم كافة.