TOP

جريدة المدى > سينما > "رجلٌ، وامرأة" بعد أكثر من خمسين عاماً

"رجلٌ، وامرأة" بعد أكثر من خمسين عاماً

نشر في: 31 أكتوبر, 2018: 06:28 م

صلاح سرميني

"رجلٌ، وامرأة"، فيلمٌ تسّجل بمحبةٍ في تاريخ المخرج الفرنسي "كلود لولوش"، والسينما الفرنسية، والعالمية، أنجزه في عام 1966، ولم يكن يحلم بتعويض خسارته المادية الفادحة إثر فشل فيلمه السابق "اللحظات الرائعة" الذي أخرجه عام 1965، بقدر رغبته تجاوز الأزمة النفسية التي عاشها.

من شاهد "رجل، وامرأة" منذ فترةٍ طويلة، رُبما لن يتذكر منه غير الموسيقى الشهيرة التي ألفها "فرانسيس لي"، وتشبّعت بها أحداث الفيلم، وكانت تظهر بين مشهدٍ، وآخر، وخاصة في لحظات اللقاء بين العاشقين بالقرب من شاطئ مدينة دوفيل، والكاميرا تدور حولهما.
حظيت تلك النغمة، وكلماتها المُصاحبة، غير المفهومة، على دور يتخطى دعم الصورة، أو تصويريتها كما يُقال (موسيقى تصويرية)، حيث ساهمت بالأحرى في زخرفة الجانب الإيقاعيّ، وتصعيد الشحن العاطفي، وفي بعض اللحظات استعارت دور الحوارات، نابت عنها، أو ألغتها.
عندما كانت إحدى الشخصيتين تتخيّر التزام الصمت في مواجهة سؤالٍ ما، كانت تتسلل تلك النغمة بين اللقطات، وتقدم إجابةً مضمّرة، وهذا ما حدث بالضبط منذ المشاهد الأولى داخل السيارة وهما في طريق العودة من مدينة دوفيل بعد اللقاء الذي جمعهما بالصدفة أمام المؤسّسة التي تأوي ابنه أنطوان، وابنتها فرانسواز، وموافقتها على أن يُوصلها إلى بيتها في باريس.
وكما امتلكت الموسيقى دوراً جوهرياً، تمكنت الألوان من دعم البناء السينمائي، والدرامي على السواء، بانتقالها من الأبيض والأسود إلى الألوان، وبالعكس، ومع أنه كان اختياراً مُسبقاً بهدف تقليص تكاليف الفيلم، إلاّ أنه منح الأزمنة أبعاداً لونية إلى حدٍ تداخلت هذه الانتقالات فيما بينها، وأصبحت الرماديات، والألوان غير محسوسة.
وفي السيارة دائماً، وخلال مسافة طريق العودة، كانت "آن" تردّ على أسئلة "جان لوي" عن طريق الصورة، والصوت/العودة إلى الماضي انتقالاً من الأبيض والأسود إلى الألوان، ومنها عرفنا بأنها تعمل مساعدة إخراج (سكريبت)، وكانت متزوجة من ممثل يؤدي الأدوار الخطيرة، مات خلال تصوير أحد الأفلام.
في البدء، ينتاب المتفرج بعض الريبة، هل ما ترويه "آن" حقيقيّ، أم مُتخيل، وخاصةً بعد فهمنا بأن "جان لوي" يردّ على أسئلتها بإجاباتٍ كاذبة، ومرحة، عودة إلى الماضي، يحكي من خلاله بطريقةٍ ساخرة بأنه يعمل قواداً، بينما لاحقاً، سوف يشرح لها طبيعة عمله الحقيقي كمدرّب سباق سيارات، وتدريجياً يتبيّن بأن حكاية "آن" كانت حقيقية.
يستغرق مشهد الحوار الذي يدور بينهما في السيارة ـ مع لقطات العودة إلى الماضي ـ حوالي 15 دقيقة، وسوف نجد بأن معظم المشاهد اللاحقة طويلة زمنياً، يتخللها لقطاتٍ كثيرة، وسريعة.
ومن بين الخصائص الأخرى التي تميّز بها الفيلم (والبعض يعتبرها نقيصة)، الجانب التسجيليّ المُتداخل مع الروائي، تماماً كما تداخل ماضي، وحاضر الشخصيتيّن مع بعضهما على الرغم من المسافة التي وضعها كلّ واحدٍ منهما أمام الآخر حتى لحظات اقتراب الفيلم من نهايته، واختفاء المسافات، ومن الأمثلة التي تكشف عن تسجيلية بعض المشاهد: التدريب في حلبة سباق السيارات، ولاحقاً النزهة البحرية في مركب أحد الصيادين.
جان، وابنه أنطوان، وآن، وابنتها فرانسواز، قبل ذلك، في المطعم، تتوضح تلقائية مدهشة في الحوارات المتبادلة بينهم، وخاصةً الرجل، والمرأة، وخلاله بالتحديد، يتمحور الحوار عن السينما، ويبدو بعضه تعبيراً عن أفكار المخرج في الحياة، والفن.
افتراضياً، إذا اقتطعنا المشاهد الروائية التي تجمع بين الشخصيتيّن، سوف يصبح الفيلم تسجيلياً، يُظهر مقتطفاتٍ من حياة "جان لوي"،فهو رياضيّ سباق سيارات، أو مدرّب.
وبالعودة إلى البناء اللونيّ في الفيلم، وبينما كان "لولوش" يصوّر الشخصيتين في السيارة بالأبيض والأسود، وكانت "آن" تُجيب على أسئلة "جان لوي" عن طريق العودة إلى الماضي بالألوان، وعندما يجيب "جان لوي" على أسئلة "آن"، ينعكس الأمر، ونشاهد الشخصيتين بالألوان، وأجوبته عودة إلى الماضي بالأسود والأبيض.
في مشهد اللقاء الجسديّ الطويل بالأبيض، والأسود، تستعيد "آن" بعض ذكرياتٍ ملونة مع زوجها المتوفي، ترافقها أغنية حزينة.
ومع أن البناء اللونيّ لم يكن أكثر من اختيار اقتصاديّ وُفقاً لتصريحات المخرج نفسه، إلا أن هذه الانتقالات منحت الفيلم أسلوباً خاصاً سوف نعثر عليه لاحقاً في أفلام أخرى (واحد+ واحدة) على سبيل المثال، كما أضافت إيقاعاً ذهنياً ما كان للمتفرج إدراكه فيما لو تمّ تصوير الفيلم بكامله بالأبيض والأسود، أو بالألوان.
ماهي دلالة الألوان في أحداث الفيلم، هل ترتبط الرماديات بالذكريات الحزينة، والألوان بتلك المُبهجة، أم العكس؟ هل يخلط الفيلم بينهما؟ ويقودنا إلى نتيجة طبيعية بأن الحياة نفسها خليطٌ من الألوان، والرماديات؟
الأهمّ، يتطوّر الانجذاب بين الشخصيتين بسلاسة، تعمّد البناء المونتاجي أن تكون بعض المشاهد طويلة، ومزخرفة بلقطاتٍ عديدة، مع التركيز على تفاصيل تشير إلى قليلٍ من التردد في تجسيد مشاعرهما، في المطعم على سبيل المثال، كانت أصابع "جان لوي" تلامس بالكاد كتف "آن"، وخلال النزهة البحرية مع الطفلين يتردد بملامسة أصابعها على الرغم من برودة الطقس التي تسمح له بذلك بدون حرج، تلك الأجواء الشتوية ضاعفت من شاعرية الفيلم، وكانت السيارة مكاناً دافئاً للبوح، بينما تحولت المشاهد الخارجية (القارب، الشاطئ..) إلى فضاءاتٍ لانطلاق الأحاسيس، والمشاعر وصولاً إلى اللقاء الجسديّ البارد حيث كانت "آن" تسترجع ذكرياتها مع زوجها المتوفي بدل أن تتفاعل مع حبيبها الجديد.
من بداية الفيلم، وحتى نهايته، ينحاز المخرج سينمائياً للمشاهد الموسيقية، إلى الحدّ الذي أصبح الفيلم موسيقياً حتى في المشاهد التي لا توجد فيها موسيقى، كانت تتجسد موسيقية الصورة ليلاً، أو نهاراً، وهنا يُحيلنا هذا الجانب إلى الشاعرية، التأملية، والحلمية.
في السيارة، وعندما يمسك يدها أخيراً، تنظر إليه نظرة تستغرق زمناً طويلاً بدون أن ينتقل المونتاج إلى وجه "جان لوي"، هذه حالة انتقالية درامية، وسينمائية محورية تركز على وجه "آن" أكثر لأنها هي التي يتوّجب عليها حسم طبيعة مستقبل هذه العلاقة، وتحويلها إلى حالةٍ عشقيّة، وتنتهي تلك النظرة بسؤال مفصليّ أيضاً:
ـ لم تحدثني عن زوجتك؟
كانت إجابته، أو بالأحرى ذكرياته بالألوان، في ذلك التوقيت من الفيلم بعد حوالي 50 دقيقة، يكشف الفيلم عن اسمه، "جان لوي" (وهو الاسم الأول للممثل نفسه "جان لوي ترانتنيان")، وهذه المرّة يحدثها عن عمله الحقيقي، مدرّب سباقات سيارات، ويُظهر مشهد العودة إلى الماضي لقطات من سباقات حقيقية، تنتهي بحادثة، يُنقل بعدها إلى المستشفى.
تستمر الذكريات/العودة إلى الماضي في أحد ممرات المستشفى، زوجته في حالة قلق مدمر، وعندما ينقله الأطباء من غرفة العمليات إلى غرفة أخرى، يتخلى السيناريو عن الحوار، ويستعيض بصوت نشرة أخبار تُلخص حالته الحرجة.
منذ تلك اللحظات يكشف السيناريو عن ماضييّن مؤلمين، ومتشابهين تعيشهما الشخصيتان، وهما على وشك تجاوزهما نحو حاضر مشترك أقلّ ألماً.
الفيلم، يختلق التتابع السردي عن طريق ذهابٍ، وعودة من الحاضر إلى الماضي، وبهذه الطريقة، تتعانق حياتهما سينمائياً، مع أنّ كل واحد منهما يعيش حياته بعيداً عن الآخر، حتى يتحول التعانق المونتاجي إلى تداخل، وتصبح الحدود نحيفة، وشفافة بين فيلم "كلود لولوش" بكل ما يحتويه، ومشاهد العودة إلى الماضي كأجزاء من فيلم آخر داخل الفيلم.
في مشهدين متوازيين بينهما: هل تنظر "آن" في عدسة الكاميرا أثناء تصوير مشهدٍ في صحراء مع أشخاص يمتطون الجمال، أم تتابع أحد السباقات التي يشارك فيها "جان لوي"؟
بدوره، في سيارة السباق، يمسك "جان لوي" أوراقاً، يوجه ملاحظاتٍ تقنية للسائق، وكأنه يدقق سيناريو خلال تصوير فيلم، ويبدو ـ ذهنياً على الأقل ـ وكأنهما قد تبادلا المهنة، أو تداخلت حياتهما/حاضرهما.
يخيل لي (أنظر الهامش)، أن "كلود لولوش" لم يعتمد، أو لم يلتزم بسيناريو دقيق، وصوّر الفيلم بناءَ على فكرة، وملامح أحداث، تطوّرت خلال التصوير، والمونتاج.
فعلياً، الأحداث بسيطة للغاية، تتلخص بسطورٍ قليلة: رجل، وامرأة يلتقيان بالصدفة، كلّ واحد منهما عاش ماضياً مؤلماً مع شريك حياته السابق، وسوف يساهم اللقاء بتجاوز الماضي، علاقة انجذاب بين الطرفين، وقصة حب لا تشبه القصص المعتادة، يستغرق التعبير عنها المدة الزمنية للفيلم، أيّ ربما شهوراً من الواقع.
بساطة أحداث الفيلم تلامس قلب المتفرج بسهولة، تتحسّس مسامات بشرته، كل ما في الفيلم حالة من الهمس، والوشوشة، الحوارات، الموسيقى، الأغاني، النظرات، ...يمكن القول بأن المتفرج يغوص في أجواء الفيلم أكثر من مشاهدة أحداثه.
كان "كلود لولوش" يصوّر بنفسه، ويتابع الممثلين بحرية، وبدون تجهيز مُسبق (ديكوباج)، ومهما اتفقنا أو اختلفنا حول أفلامه، لن ينسَ المتفرج مشهد اللقاء بين "آن"، و"جان لوي"، الذي أصبح واحداً من أيقونات السينما، هو أقرب إلى الحلم من الحقيقة، حيث تدور الكاميرا حولهما، وهما يحلقان في عناقٍ ساخن، وبالقرب منهما طفلان يستعدان مسبقاً لعلاقة مستقبلية، بينما رجل مسنّ يتهادى على رمال الشاطئ مع كلبه، تتحول الكاميرا من العاشقين إلى الكلب، وتتمهل كثيراً عنده، يعدو في كل الاتجاهات في صورة ضبابية، وكأنه يرقص مبتهجاً بتلك النزهة مع صاحبه.
ينتهي الفيلم في محطة القطار، ويستمر العناق، ودوار الكاميرا حولهما حتى يتوقف الزمن عند صورة ثابتة لهما مقتطعة من كلّ ما حولهما، تختفي المحطة، البحر، شوارع المدينة، ...ويبقى على الشاشة صورة رجل، وامرأة يتعانقان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

بالوثيقة.. تواقيع الكتلة النيابية الأكبر ضمن الإطار التنسيقي

انتخاب عدنان فيحان نائباً أول لرئيس البرلمان

الرجل الذي اعتلى رئاسة البرلمان السادس.. من هو هيبت الحلبوسي؟

كتائب القسام تعلن اغتيال "أبو عبيدة"

الإطار التنسيقي يعلن الكتلة الأكبر بعد انتخاب رئيس البرلمان

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

فيلم ارك.. الدخول غير الآمن لبوابة الزمن الافتراضي
سينما

فيلم ارك.. الدخول غير الآمن لبوابة الزمن الافتراضي

أحمد ثامر جهاد رغم أن فيلم (ARQ-2016) للمخرج "توني ايليوت" الذي يتواصل عرضه في صالات السينما العالمية، يُصنف كفيلم خيال علمي، إلا أنه قد خلا تقريبا من كل ما اعتدنا مشاهدته في هذا النوع...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram