لطفية الدليمي
من بين العظماء الذين أواصل قراءة تراثهم الفكري والفلسفي كل حين (برتراند راسل) الذي يبهجني فكره المضيء وحكمته الميسرة وهي تتعالق مع تشوقات الحياة الإنسانية للحب والخيروالسلام.
ظلت الحكمة والأخلاقيات الكامنة وراءها المثال الذي دفع بفكر برتراند راسل وألهمه أكثر ممّا فعلت أية قيمة أخلاقية أو فلسفية أخرى، وليس هذا بغريب على مثاله إذا ما علمنا أن راسل كان فيلسوفاً كبيراً؛ وأن حب الحكمة لديه يمتلك معنىً عملياً وأخلاقياتياً مباشراً لانعثر على الكثير منه في غالب الأعمال الفلسفية ؛ فالمعرفة مثلا يمكنها أن تكون تخصّصية أو تجريدية أو عملية أو مطلوبة بذاتها ولذاتها وكل ما يهم فيها في نهاية الأمر أن تكون صحيحة ومفيدة من وجهة النظر العملية.
بينما يختلف الأمر تماماً مع الحكمة الأصيلة، فهي ليست مجرد قيمة تحسب بالقياس إلى صحتها، بل بالقياس إلى قدرتها على الارتقاء بنوعية الحياة الإنسانية، ومن هنا يسعنا القول أننا متى ما صادفتنا حكمة عاجزة عن تحفيز الحياة البشرية والارتقاء بحساسيتها الأخلاقية، فسوف نكون عندئذ أمام حكمة جوفاء باطلة وزائفة.
يخبرنا المعلم الكبير راسل عاشق الحكمة الأصيلة بأجمل أسرار ارتقاء حياته وفكره فيقول " تحكّمت بحياتي ثلاثة مشاعر بسيطة لكنّها غير محدودة في قوتها الطاغية : توق جارف للحب، وبحث لا يهدأ عن المعرفة، وإشفاق عظيم تجاه هؤلاء الذين يقاسون ويتعذبون" بهذه العبارات البسيطة، وعظيمة الدلالة في الوقت ذاته، مهّد الفيلسوف البارز للجزء الأول من سيرته الذاتية التي تعكس حياة ثرية تليق بفيلسوف حقيقي يستحقّ بجدارة أن يكون المعلم الفكري والإنساني الأبرز في القرن العشرين بأكمله. لم يكن راسل فيلسوفاً حسب بل هو أكثر من ذلك : كان رياضياتياً، وداعية سلام بارزاً، ومعلّما، وعارضاً للأفكار العلمية الحديثة المبسطة لعامة الناس، وناقداً ثقافياً وأدبياً، وقد منحه هذا الطيف الواسع من الاشتغالات قدرة التعليق على كل الموضوعات التي يتناولها وبخاصة إذا ما علمنا أنه كان ميالاً إلى تأكيد علاقة الفلسفة مع كل أنماط التساؤلات والاشتغالات المعرفية الأخرى. وقد أبان راسل في مواضع مختلفة أنه كان شديد التوق للحقيقة ومكرّسا كل حياته ومساعيه لبلوغها حتى في تلك الظروف الحرجة التي تسبّب فيها سعيه إليها في إرباك حياته المهنية المريحة أو اضطراره إلى مراجعة أفكاره التي كان يعتقد بها في فترات مبكرة من حياته ، فكما لايخفى على محبي فكره أن الرجل دخل السجن مرتين ؛ مرة في بواكير حياته لمعارضته دخول بريطانيا الحرب العالمية الأولى ، ومرة ثانية لموقفه الرافض للحرب الأميركية في فيتنام.
لطالما تساءلت كلّما قرأت هذه الأقانيم الثلاثة التي جعلها راسل منارة تهدي حياته في مختلف أطوارها : ما الذي ستكون عليه حال الإنسانية لو فكّر كل فرد في جعل هذه الموجهات الثلاثة أساسا لحياته؟ ستكون الحياة حينئذ نمطا يقارب اليوتوبيا من الصعب تخيل عظمته وبخاصة أن امتلاك مثل هذه الأخلاقيات المتسامية يتطلب عملاً شاقاً يقترن بالكثير من الجهد والرؤية المستبصرة المدفوعة بروح تنأى عن الأنانيات الضيقة ؛ وسيكون من حقنا في كل الأحوال أن نحلم، نحلم فحسب بعالم تمثل فيه هذه الفضائل الثلاث نوعاً من خلاصات جوهرية تتمّ رعايتها وتنميتها لدى كل البشر لتصبح نمطا سلوكيا مشاعاً ، لعله سيكون الحلّ الأمثل في مواجهة معظم المشاكل الكارثية التي تواصل تهديد الحياة بجميع أشكالهاعلى كوكبنا. سامية هذه الرؤية الإنسانية لبرتراند راسل، ومحظوظ ذلك الذي جعل الحب والمعرفة والتعاطف موجهاتٍ لحياته.