ياسين طه حافظ
الحديث عن تاراس شيفتشينكو (1814- 1861) يقتضي بدءاً التعريف به وإنْ بإيجاز: فهو شاعر وطني كبير ورسام وعالم آثار وفنون شعبية ومناضل سياسي. الصفة الأخيرة مهمة كما سيتضح لنا.
مثلما منحته أكاديمية الفنون الروسية لقب فنان في 1845، اعتقل في 1847 بتهمة الانضمام لجمعية الاخوَيْن القديسين، وهي حركة سلافية كانت تدعو لتحرير الامبراطوية الروسية من الحكم القيصري وأن تتحول الى كومنولث الدول السلافية، أي دول "مستقلة" ضمن المنظومة الروسية. قريب من هذا تمّ من بعد في صورة الاتحاد السوفيتي. أقول قريب من ذلك لأنه لا يماثله تماماً.
يقول بنلسكي في مذكراته، وهو الناقد الأهم في تاريخ الأدب الروسي: "سخر شيفتشينكو في قصيدة له من القيصر وزوجته. ضحك القيصر لِما جاء عنه لكنه غضب مما جاء عن زوجته من سخرية بها وبمظهرها الرث .."
النتيجة سُجن شيفتشينكو في سانبطرسبرج ثم نفيه الى معسكرات الجيش الروسي في اورسك قرب جبال الاورال، مع تأكيد القيصر على منعه من الكتابة والرسم! لكن تعاطف الحرس معه جعلهم يتراخون في الرقابة والمنع من الكتابة والرسم، فكتب ورسم!
هذا كلام معروف في الكتب لكني أرى له تفسيراً آخر غير ما ورد من تفاسير وكأن القيصر رجل سخيف ضحك لما جاء عنه وغضب لما جاء عن زوجته. المسألة ليست هكذا. فأنا لا أظن القيصر كان بليداً حين ضحك من السخرية به فهو ضحك من الشاعر وقصور فهمه للأمور. ولا أظنه بليداً حين غضب من السخرية لزوجته. لقد غضب لاكتمال السخرية بالعرش القيصري فدق بالنسبة له ناقوس الخطر، فهو يعرفه شاعراً تحريضياً فلم يحتمل كل هذا.
والشاعر الذي اتسعت شهرته شاعراً وفنان رسم ونقش أيضاً، سبق أن قدم طلباً للتدريس في جامعة كييف وفي اليوم الذي تسلم فيه أمر تعيينه، تم اعتقاله ونفيه من 1847- 1857، "عشر سنوات في الثكنة النتنة.." ولم يطلق سراحه إلا بتوسط أصدقاء وبشرط الإقامة في نيجي نوفغورود، بعيداً عن كييف وحيث عالمه الحميم وموقد حماساته.
في 1861 توفى شيفتشينكو في بطرسبرغ ودفن في مقبرة سمولينسك. لكن تلبية لرغبته التي أعرب عنها في قصيدته "الميثاق"، رتب اصدقاؤه أمرَ نقل رفاته في القطار ثم بعربة تجرها الخيول الى أرضه الاوكرانية وأُعيد دفنها في جبل الراهب، الذي صار يسمى باسمه "جبل تاراس" وكما أراد على ضفة الدنيبر الهادر الى البحر الاسود.
الشاعر الذي عرف القنانة وعرف المنفى ودفن بعيداً عن أرضه وناسه، ترك مجداً شعرياً وفنياً ووطنياً. واحتفلت اليونسكو بذكرى ميلاده المائتين وشهدت أكثر من مائتي دولة حدث الاحتفال!
بالنسبة للسوفيت، من بعد، كان شاعراً وطنياً عظيماً وداعية تحرير من القنانة والقيصرية وبالنسبة للأوكران اليوم كان شاعراً قومياً عظيماً أسس لميلاد أمة.
ما استوقفني في هذا السرد، وأحزنني، هو محنة الشاعر حين لا يُفْهَم شاعراً والفنان حين لا يفهم فنان فيؤذيه الحب وتؤذيه الكراهة. فشعور المحبة الوطني الذي قرّبه للأخوين القديسين، سلمه لشعور الكراهة والانتقام القيصري. هذه واحدة. الثانية، إنه شاعر وعي توقدت حماسته شعراً ورسماً ومسرحاً وفعلاً لتحرير شعوب الامبراطورية القيصرية من القنانة والبؤس ودعا مبكراً للنهوض الوطني. وطنيته هذه لم تتحدد بأوكرانيا وطنه وأرضه ولم تقتصر عليها ولكن لكل الشعوب المستعبدة للقيصر. ولذلك كرمه الاتحاد السوفيتي من بعد شاعراً وطنياً وبطل نضال للتحرر من التخلف القيصري. لكن السياسية في العقود الأخيرة جعل الأوكران يرفعونه ويمجدونه شاعراً أوكرانياً قومياً، تماثيله في البلاد كلها، وتلتزم روسيا اليوم عنه الصمت وهكذا، للأسف، يخسر الشاعر بعضاً من حقيقته حين تتحكم السياسة لا الأدب ولا الفن. حتى المعايير النقدية لا تظل سليمة دائماً.
أنا حتى الآن لم أتحدث عنه شاعراً وأنا طبعاً لا أجيد الحديث عنه رساماً. لكن من الترجمات القليلة التي أمامي لشعره، رأيت كم هو مشبع بالطبيعة الأوكرانية، غاباتها ناسها وحميميتها الوطنية. الطبيعة الأوكرانية تشكل نسيج القصائد والأفكار نقاط ضوئية تتوزع المساحة الخضراء مصابيح ..
نحن طبعاً لا نريد من شاعر القرن التاسع عشر ومن تلك البلاد ما نريده من الشعر الحديث اليوم. لذا نتحدث عنه كما هو في زمنه وبيئته وبالنسبة للشعر والفن السائدين هناك، ساقتطع مقطعاً من قصيدة طويلة له، لنرى اللطف الخاص، المحبة والروح المحلي وذلك النبض الشعبي الجميل فيها. هو شاعر وطن حقيقي! هذا هو المقطع الذي اخترته وسأُعدل في الترجمة قليلاً:
بستان الكرز قرب بيت الفلاح
الجِعلان تطن فوق العناقيد
والزراع يدفعون محاريثهم
والعذارى يتهادين وينشدن أغاني
بينما الأمهات الآن ينتظرن العشاء لينتهينَ .
هو الوقت حان
نجمة المساء تلتمع
والفتاة جاءت بالطعام تقدّمه
أرادت الأم تلقينها شيئاً،
فصدها بتغريده العندليب.
انتهى كل شيء
أنامت الأمّ أطفالها
وإلى جانبهم استغرقت هي في النوم
وهدأ كل شيء
إلا العذارى والعندليب...