عبد العزيز الحيدر
بين حين وآخر...يعن لي أن أتوجه مسحوباً لعطر غريب يمر من دهاليز الذكريات - كما تمر الصور والكلمات والأحداث - ألا أنه يتميز هنا... أقصد العطر بوجود حقيقي, تماماً ...هو تحت الأنف,يوغل , ويصعد إلى الدماغ مثيراً ذات الأحاسيس اللذيذة الذي كان يثيرها في الطفولة ألحقة... إنه عطر يصطادني ,برمي شبكته حولي , يطوقني...
عجيب أمر هذه ألرائحة التي لم أعرف لحد ألان - بالرغم من تكرارها بين حين وآخر- مصدرها ... من أي شيء تنبعث؟ وكيف؟ ومتى؟ ...... لم تطاردني..أهي حلم..قطار يقود الى الحتف...يسير الى الوراء..تتداعى معه السنوات...تصل حافات بعيدة... أول قبلة ..أول رؤية لجسد أنثوي عار...أول حرارة وتدفق..لذة ورعب.. بعض الأحيان يخيل لي أنها رائحة شواء ..... كان ذلك اقرب ما كنت أخمن , ربما رائحة ما ينبعث من سائل يهز الجسد هزا عنيفا..يقرص الراس..يعبث بما تحت الجلد...باذنجان يحترق, وأحياناً خيل لي إنها رائحة نوع من الحلوى لم تعد تتوفر ألآن .. حلوى الطفولة القديمة ..الزجاج المضبب.. من لون معين من الألوان العديدة التي تتشكل منها .. كنا نبتاع إصبعاً منها تظل بين الفم والأصابع لساعات ..هي لذة من نوع اخر..هي ماء..هي أول اكتشاف للذة المجهولة..المختبئة خلف شعر ينبت في قادم السنين ..أرعن ..دبق ..لاهث يصير.. بجنون مراهق .. حلوى وألوان وطفولة صاخبة , البائع المتجول يمر بصحنها الكبير المقسم إلى عشرات الألوان...ربما كانت الرائحة هي رائحة لونها الأخضر... أو البنفسجي الغامق ..ذلك ما كنت أتوقعه ولكن لا مجال لتأكيد ذلك أيضا..رائحة جسد ..ولكن كيف وصلت..لا انها الحلوى المتعددة الألوان ..البنفسجي منها تحديدا , طالما أن هذا النوع من الحلوى قد اختفى وجوده من الأسواق وإن أمثال هذا البائع المتجول ما عاد لهم وجود في أزقتنا هم أيضاً.... فمن أين تأتي هذه الرائحة التي تثير كل هذا الفضول والإحساس بالسعادة والاقتراب من اللذة ...المشكلة هي إنك لا يمكن أن تصفها لأحد ما لكي يعينك فلا بد من أن يكون الآخر مشاركاً فعلياً لك في الإحساس هذا لكي يعمل فكره ويسترجع ذكرياته وينجدك بإجابة قد تعين على المسك بمصدرها...أهو الغريب الذي لا يمكن المسك به....اهو الزمن؟... ربما أو هو الوهم....الصديق القديم..إنها أرانب يا صديقي...أرانب لا تطير... أرانب من دخان الذاكرة واشتياقاتها وحنينها للمجهول...لرائحة الماء .. والنهر..الماء الغليظ..المنفجر من بين فخذين مرتعشين... آهٍ أيتها الأرانب... الأرانب التي لا تطير . إنك تذوبين أيضاً في قدح الذاكرة..القدح المثلج.