ناجح المعموري
صدر ديوان "الحديقة ليست لأحد" للشاعر ياسين طه حافظ ضمن منشورات الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق. ويمثل هذا الديوان تجربة جديدة في مساره الابداعي وتثير العديد من الملاحظات، أهمها شخصية ليزا الممتدة في سرديات الديوان بحيث شكلت قناعاً وصوتاً ملحمياً، تعددت توظيفات ياسين طه عليه، مما جعله أبرز الوحدات السردية في هذه المحاولة الجديدة والجريئة.
وهي فعلاً عتبة مكملة لتجربة طويلة وعميقة، لكنها ذات صوت متسع وعميق، استطاع أن يتشرب ويصوغ شبكة أصوات، برزت في وحدات سردية ذات حضور عام. بمعنى هي حكايات مدونة على فترات. لكنها بالمحصلة الأخيرة جعلت من شعريتها خيطاً حاضراً ومستدعياً لتصورات التلقي. ولأن ليزا أكثر حضوراً في هذا العمل الملحمي المنفتح. تعاملنا معها باعتبارها رمزاً أيضاً وغادر قناعه. ليرسم فضاء أوسع وأكثر تنوعاً وتعدداً مع بروز روحانيات في عديد من المقاطع التي أشر عليها فراغ قليل بين سردية وأخرى. بعضها متصل مع الآخر. وفيها ما هو مستقل، لكنه اشتغل على تنويعات ذهب إليها الشاعر كنوع من السيرة الذاتية واستذكار للماضي الذي كان وما زال حاضراً، متحركاً بطاقة الذاكرة، نابضة من أجل الإمساك بسرديات نابضة ويقظة، لا يقوى الزمن على طمسها أو تعطيلها. فالرمز/ القناع باق. يمتلك قوة حضور واستدعاءات لمرويات هي الروح للحظات تاريخ. اقترب الشاعر فيها .
اختصرت ليزا كثيراً من النساء وصاغت معهن حكايات الماضي وروحه. نساء حاضرات بقوة مثل فاطمة التي كتبنا عنها سابقا و" الحديقة ليست لأحد. تنطوي على حضور شفيف لخيبة ماثلة. ضاغطة. لكنها تتبدد في ازدواجيتها مع سرديات أخرى فالحديقة ليست لأحد، صوت محبط. قلق. مرتاب. خائف في زمن يستدعي الخوف ويعطل التمرد. وإن ظهرت إشارات لذلك لكنها خفيفة. لأن ياسين طه حافظ يعرف من خلال تجربته الابداعية بأن وظيفة الشعر همسية وليست صراخية
سأظل اقرأ كتابات خاطئة
التراتيل لا تبارحنا ونحن نساوم
أو ونحن نرتضي موت الزنبقة البيضاء
كل حياتنا في تشبث اخير
نسقط بعده جميعا غير مصدقين بالسقوط.
خذلان لا أحد ينتبه له
ذلك كل ما نستطيع.
بواسل او هزالي،
اقتلعوا البوابة فاستسلمنا. ص81
كان وظل منقاداً للوهم الذي استدعى القناع ليلوذ به ويتخلص من ارتباكات حياته وقبوله بمدونات. حكايات ليست صحيحة. هذه ملاحظة عن خيبته وهو يكرر الخطأ المكتوب وأيضاً يقف عاجزاً وهو يرى موت الزنبقة البيضاء. ومثل هذا الفعل اعتراف مكشوف وغير مستتر عليه. يجعله مشاركاً بذلك. وهو عارف بأن زمنه. مروياته قريبة من حد يضع علاقة على حاضر لا يستمر كثيراً. تناقص الزمن اقتراب للموت كما قال المفكر لفيناس. وهذا تلميح متكرر. يوميء لقلق وأوهام تطفر أمامه. ليقع. ليس وحده. بل كثير معه.
هذا غير مصدق بالسقوط المربع. هذه موضوعة الادباء الملاحقة لهم وخصوصاً الذين غرفوا السقوط، واكتشفوا ذواتهم عارية مكشوفة. مفضوحة. لا تسعفهم مرويات الاستدعاء والتوسل بما يوفر فراغا امنا وهادئا. لكن الراوي اكتشف ان السقوط المريع لا احد انتبه له وهذا ما يستطيع عليه وحقيقة اللوعة. إن الراوي لم يقو على شيء ولم يستطع فعل ما يساعد على اعتياد الذات على الهدوء والحنين. لأنه فجأة رأى المصد. الحماية. المغلق. المستور. المتكتم عليه. ينهار. اقتلعوا البوابة فاستسلما "
العنْونة كافية لإضاءة العتم في هذه التجربة التي دائماً ما تنفلت وتترك نثاراً لها مع غيرها من السرديات والحديقة ليست لاحد. هو العاشق المطرود الذي جعل الحديقة حراماً على غيره. بعدما غادرته وظلت ذاكرة مختزنة لسرديات كثيرة. والعودة للماضي وسيلة العاشق الصوفي القادر عليها. .انها سرديات شعرية عن حلم فرد. وجماعة. لان العشق عام ولن يكون فردياً. لان مثل هذه الصفة تجعله لعبة تافهة :
أيتها الحبيبة. هذا أنا العاشق والحارس
والموصى برعاية الضوء والذي ينتظر
ندمُك لا يكفي. تقولين هي الهفوات
كلام لا يليق بابنة الانوار البعيدة. انتبهي !
الانكسارات ترسمها على صفائك المتاجر
وأنت في إطارك الذهبي والمرايا
تتبعك المساومات حتى الفراش
والإباء لا يظل صلباً
الجلال يتهاوى في اللمعان
والكلمات اللعوبة تقرّبك بروعتها للسلم القديم. ص80
هنا اشتركت ليزا مع فاطمة بقطار السرديات وفجرت حكايات شعرية قادت نحو روحيات وفضاءات لا تنسى. منورة. والمقطع الأخير متناظر مع سرديات فاطمة المستعادة. لكن ليزا المعشوقة الاولى والتي بعدها والاخيرة التي فتحت خزانة ذاكرة الراوي وتفحص مروياته كلها بصفاء شفاف ولذائذ أكثر وغيابها في زمن يتراجع سريعاً. هكذا يتصوره الممسك بيده زنبقة ويراها متساقطة الأوراق. وأخذني هذا المقطع أكثر نحو القناع المصاغ من أنثويات عديدة. كل واحدة منها. تركت بعضاً منها على غيرها. وجعل منها الشاعر كليته الأنثوية . المأخوذ بلا ارادته نحو حلمها. والراكض بمروياته لها. ليقول لها بملحمتهما التي مارس سرده فيها. بوصفه العاشق والعاشق والحارس، يعاين ابنة الانوار البعيدة .ويصرخ مرشداً لها :انتبهي !
يراها وهي من اطارها الذهبي والمرايا /تتبعك المساومات حتى الفراش. والإباء لا يظل صلباً. الجلال يتهاوى في اللمعان. ص80//
الحديقة ليست لأحد. وإنما هي للراوي الشاعر ولعبت الشعرية بالعنْونة وجعلته هكذا. فياض بالذكاء والكاشف عن لعب الشاعر الراوي في الحديقة. أوكد بأن ليزا وفاطمة من اقنعة الشاعر وكلتاهما من نتاج اماكن مكتشفة. رأت الأنوثة حاضرة الجسد واللذائذ. ويلتقط النفس الملحمي الرومانس اللحظة الجديدة. لحظة الشيخوخة التي اكتشفت وما استطاعت التفريط بنقاوة الروح :
وحده الذي يتباهى به الحب. يعرف شحوب الروح. ووحده الذي يغادر الدار وحيداً. مع شيخوخته. يعلم ان رسائل مغلقة بقيت. وإن وداعاً قطع إذ دارت العجلات ص65//