طالب عبد العزيز
إذا كانت كتب الفكر والفلسفة والمعرفة بعامة، قد شكلت محور تنمية اجتماعية وتطلع وشغف نخبة المثقفين، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، في الوطن العربي والعراق بخاصة، فقد كان الشارع العراقي وسكان الحواضر في بغداد والبصرة والموصل وكركوك على وجه التحديد متقبلِاً لصورة وسلوك المثقف، بل وكان موضع احترام العامة، وتحريضاً قوياً من أجل قيام التحولات في المجتمع المدني باتجاه المدنية والنأي عن مفاهيم وتقاليد الريف والقبيلة.ولأننا، كنا شهود المرحلة تلك، بحكم العمر، فقد كان المثقف ومدعي الثقافة ايضاً موضع احترام العامة، وكانت كتب الفكر العلمي والماركسية وأصل الانواع وأعمال سارتر وكتب الوجودية والروايات العالمية وكتب الفنون والأعمال الفنية وغيرها تزين واجهات المكتبات، وتشكل إغراءً قوياً لكل ذي تعليم، بل وجود المكتبة في الضاحية والحي دالة مدنية، وقد انعكس ذلك في سلوك الشارع، وفي المقهى، وعدًّ كل من يحمل كتباً مثقفاً، وقد تراجعت إثر ذلك أعراف وقيم قبلية، كانت متحكمة وتراجع دور رجل الدين وشيخ العشيرة والعرّاف والحجّام وصار المجتمع يتطلع بعرفان واحترام الى الفنان والموسيقي والشاعر والمعلم وهكذا، كان الجميع يسعى لتحقيق كل ما هو جميل، حيث انعكست تأثيرات الثقافة في أناقة مستعملي الطرق والمركبات والباعة فكان الشارع نظيفاً وكانت المرأة تعتني بحديقة المنزل وكان سكان البيوت يتفنون بطلاء أبواب وأسيجة منازلهم على بساطتها وتقليديتها. لكن يوم 22 تموزمن العام 1979 وانقلاب قاعة الخلد، كان النقطة السوداء الفاصلة، في اجهاض مشروع التنمية المدنية واستمرار التحول المجتمعي، وفي العام نفسه كانت ثورة الخميني الكارثة الأخرى أيضاً، وكانت الحرب مع إيران، وما تصادى جراء ذلك، في العراق والخليج والمنطقة العربية ثالثة الاثافي، في أجهاض مشروع التنمية بشكل كامل في العراق بخاصة، لأنه تحمل وما زال يتحمل الوزر الأكبر، جراء ذلك كله. ففي أروقة قاعة الخلد كان مسيل الدم الأول، الذي شرع القتل وأسس للخوف والنفاق وصناعة الرمز، ومن أبواب ثورة الخميني خرج رجال الدين والدعاة ليُلبسوا عباءة الماضي بكل ما فيها من التجهيل والتشدد والظلام جيلنا الجديد، فكانت حصة المرأة في ذلك هي الأكبر، وفي الأيام تلك رأينا الخرق السوداء والبيضاء وهي تغطي شعر بناتنا الذاهبات للمدرسة الابتدائية، وفي الأيام تلك ذهب الكثير ممن أسند اليهم أمر التحول يتصفحون كتب الاختلاف والخلاف والتنابز. وفي العام 1980 جاءت الحرب لتشتمل على البؤس كله.على هدي ذلك، لا يمكننا، هنا، استبعاد نظرية المؤامرة، ذلك، لأن سنوات الحصار كانت حنفية الجهل الثانية التي ستروي ظمأ أجيالنا القادمة، لا بالكتب والمعرفة والفنون هذه المرة، إنما بالأدعية والتصبر والسير الى الأضرحة، بعد أن رسخت حنجرة الغيب مقولة أنْ لا حلَّ لكم هنا، وأنَّ الطريق تلك هي الضامن الوحيد لحصولكم على الخبز، ولعمر كل ذي عقل، فقد كانت هذه مبتغى قادة التجهيل في تحجيم العلم والعلماء والنخب المثقفة.