نعيم عبد مهلهل
أنهى صاحب الرواية الأسطورية الشيخ والبحر حياته بطلقين من بندقية صديق ،في انتحار مأساوي عقب عليه كاسترو وبدمعة مخفية : ما كان على السيد ارنست همنغواي أن يفعل هكذا . أنا إن اردت الانتحار سأنتحر بمضغ تبغ سيكار كوبا كلها .وفي مكان ليس بعيداً عن فراش الرقدة الأخيرة انتحرت الممثلة الاميركية مارلين مونرو بجرعات زائدة من حبوب منومة.
صورة الموت في مشهدين لم يوقفا المد الحضاري لحركة الرواية والسينما في انعاش اللحظة الاميركية ، وربما بعد همنغواي بهتت فورة الرواية وذهبت لتسطع في اميركا اللاتينية لكن السينما ظلت متّقده وهي تأخذ بوصية مونرو :ليكن أحمر الشفاه الذي بين شفتي فورة لأزمنة اميركا القادمة.
لاأعرف إن كانت مونرو تمتع الشيخ الضخم الذي يكتب بانفعال ليثبت لعشيقاته إنه أسد جسور. لهذا وأنا أتخيل مشاهدة لهمنغواي في لحظة اليأس وأقارن بين الموتين فأكتشف أن انتحار الروائي كان تصرفاً وراثياً فقد انتحر أبوه قبله واختان غير شقيقين وبعض الأحفاد ،أما انتحار مارلين فكان حالة إحباط وضجر وربما خوفاً من تجاعيد الوجه القادمة.
ماتت بعده بعام ، ولا أدري إن كانت مارلين قرأت شيئا لهمنغواي ،وحتما قرأت ولكنها في مخيال الرغبة لم تقترب منه لأنه بعمر والدها .
لكن التخاطر بين الهاجسين الرواية العظيمة والتمثيل بلغة انوثته المثيرة ظل قائماً ،وربما هي عوضته بأن ذهبت الى أحضان كاتب امريكي آخر هو آرثر ميللر ، وهو نتاج أدبي ومسرحي لتلك الحقيبة التي أرادت بها أميركا أن تمحو آثار وجراح وضحايا الحرب الكونية الثانية فذهبت الى لهو السينما والمسرح والروايات.
ربما تمناها ليكون جداً لها ، أو الأب . وربما تمنته ليكون شيخها العنيد الذي تصارع به أمواج الحياة وما ستتعرض له من ضغوط نفسية وجنسية وقصص تلاحقها بالإشاعات والتلصص على حياتها من وراء زجاج نوافذ غرف نومها حتى عندما تكون نزيلة فندق.
هذه المرأة البيضاء والمطعمة بفتنة النار ظلت وعلى مسيرة أعوام قليلة من الشهرة والعطاء المغري تمثل ظاهرة أدخلت السينما في متاهة الأسطورة ومثلت مع جيمس دين وشارلي شابلن ثالوث الدهشة البدائية للأسود والابيض الذي صنع السكوب على طول الشاشة وليُسمرَ إليه العيون ويثيرها بدهشة الانتصاب والتمني والاستمناء .حتى أن فيدل كاسترو المتخاصم بعنف مع الرئيس جون كنيدي قال :ربما ذات يوم سأوسط الفاتنة الشقراء مارلين مونرو لتبعد اميركا سفنها عن جزيرة الخنازير ونصنع اشتراكيتنا كما يحلو لنا ...
مارلين ردت على الرئيس :ليلة واحدة أداعب فيها لحيتك واشم عطر تبغ السيجار الفاخر فيها يغريني جدا لا توسط لك أيها الرئيس.
كاسترو لم يزل حياً وفي شيخوخة مزعجة ، ومورنو انتحرت . وما بينهما تشعل ذكريات خواطر القرن العشرين بين غرام وانتقام كما يحدث الآن في الثقافة الاحتلالية للقوى الكبيرة وجنرالاتها حيث تعاد الخواطر بموسيقى أخرى يدونها الساسة والمنزعجون من أباطرة غيرهم ، خواطرهم الحروب وارتداء بدلات جلجامش ليخلدوا في التيجان والرئاسة .فيكون إزاحتهم بخواطر حرب بحرب .وليس بخواطر القصائد الحماسية والثورية والمظاهرات السلمية كما حدث في بغداد التي مثلت في العصر الحديث ( ما بعد الحربين العالميتين ) ظاهرة للاكتساح الكامل دون مقاومة تذكر.
لا أدري إن كانت تلك التفاصيل في حياة الممثلة الاميركية معروفة من قبل همنغواي وحتى وأن كانت محسوسة فأشعر أن الأمر لا يهمه ،لقد عاش ليكتب ملاحمه وغزاوته الروحية والجسدية بالطريقة التي كان يفكر فيها إنه رجل بقوة ثور ،وعندما شعر إنه عجز ليستمر كذلك حاول الانتحار أول مرة فأنقذته زوجته ولكنها لم تستطع إنقاذه في المرة الثانية.
مورنو فعلتها بهدوء وهي ترتدي ثوب النوم الابيض والمصنوع من الستن القادم من معامل نسيج خاصة اسسه ماوتسونغ في ضواحي بكين من أجل بدلاته العسكرية وثياب الراقصات لفرقة الباليه الصينية التابعة الى الجيش الأحمر ،وكانت بعضاً من هذه الخيوط تعطى هدية من قبل البعثة الصينية في اميركا ،وهي بعثة تمثيل رمزي لعدم وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين.
الأثنان ماتا انتحاراً ،ولكنهما أبقيا في الذاكرة الاميركية شيئاً من لذة الخصوصية في أحياء الجمال الانساني على شكل حكاية أو مشهد سينمائي ، وسوية كانا يمثلان الظاهرة التي كان على الجميع في كل الدنيا أن تكون بالنسبة لهم لذة في التعلم والإعجاب والانبهار.