TOP

جريدة المدى > سينما > شريط "الطيور العابرة".. متعة بصرية خالصة وتقلبات مصائرها بفعل تجارة المخدرات

شريط "الطيور العابرة".. متعة بصرية خالصة وتقلبات مصائرها بفعل تجارة المخدرات

نشر في: 14 نوفمبر, 2018: 06:36 م

لندن- فيصل عبدالله

قبل عامين، أو حولها، وضمن تظاهرة "نصف شهر المخرجين" لمهرجان كان السينمائي الدولي، عرض المخرج الكولومبي سيرو غيرا شريطه السينمائي الباهر "عناق الأفعى" Embrace of the Serpent)). نبه هذا الشاب، ولد في عام 1981، والقادم من بلاد التنوع الإثني واللغوي والمثقل بالحروب الدموية، ان كانت داخلية او خارجية، عشاق السينما ومتابعوها إزاء أحد النصوص السينمائية البارعة في تشكيلاته الصورية، و إشاراته الأسطورية ومراجعه التاريخية و مزجه بين عالم الخيال بالواقع. إستحضر غيرا في شريطه إياه حشداً من القضايا المعقدة تطال التاريخ الإستعماري الأوربي لبلده ومفاهيم مثل الدين والإيمان والحضارة الوافدة وما قامت به شركات المطاط العملاقة من جرائم تجاه السكان المحليين. وعبر علاقة طبيب شعبي يدعى كاراماكاتا، آخر الناجين من السكان الأصليين، مع عالمين أجنبيين يبحثان في مجاهل غابات الأمازون عن نبتة الشفاء المقدسة. ورغم تصويره بالأبيض والأسود كتحية لحقبة زمنية محددة تعود الى النصف الأول من القرن العشرين، إلا ان ذلك لم يمنعه من تحقيق نجاحات معقولة لفيلم أجنبي خلال عروضه السينمائية التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية، ما حدا ببلده الى ترشيحه رسمياً ولأول مرة في تاريخها الى مسابقة جوائز الأوسكار ضمن فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنكليزية.
في جديده "الطيور العابرة" (Birds of passage)، وبتعاون مثمر بدت بصمات مواطنته المنتجة كريستينا غاليغو واضحة عليه، نتابع ملحمة سردية وبصرية عميقة في دلالاتها الإجتماعية والسياسية، وكأنهما يستكملان بها ما بدآه في "عناق الأفعى". يأخذ صاحب "الظلال الشاردة" (2004) و "رحلات الريح" (2009) مشاهده الى شمال كولومبيا إبان نهاية ستينيات القرن الماضي، حيث يتخذ منها سكان قبيلة الـ "ويوو" الأصليين مستقراً. إلا ان قدر سكان تلك المنطقة القاحلة والمعتدة بتقاليدها الراسخة، رسمت مشاهدها الصورية وكأنها لوحات فنية باذخة بجمالها، ينقلب رأسا على عقب غداة بلوغ الشابة زايدة (ناتاليا رييس) سن النضج والزواج. إذ وحسب التقاليد يتطلب من زايدة تأدية رقصة فولوكلورية، أطلق على هذا الجزء المغادرة، أمام سكان المنطقة علها تظفر بقلب عاشق يجاريها تلك الرقصة. ورغم نجاح الشاب راباييت (خوسيه أكوستا) بقبول التحدي، إلا ان رئيسة القبيلة الكريزماتكية أورسولا (كارمينا مارتينيز) لم تقتنع بهذه النتيجة. ونظراً لقرب راباييت من حامل رسائل القبيلة بيريغرينو (خوسيه فيسنت كوتس) وبتدخل منه تقبل الأخيرة بهذه الزيجة بشروط مهر ظنتها تعجيزية، وتتمثل بتقديم 50 بقرة و 20 معزة فضلاً عن عدد من الأحجار الثمينة لقبوله داخل الأسرة خلال فترة زمنية محددة.
تضع هذه الشروط الصعبة راباييت في حيرة تلبية هذه الشروط القاسية. لكن وبمساعدة صديقه الإسباني مويسي (خون نارفاييز) يلتقيا في مقهى تتردد عليه مجموعة من الهيبيز الأمريكان، يعملون ضمن فرق السلام، للراحة من مهمة توزيع منشورات معادية للشيوعية والبحث عن مخدرات. يقلب هذا اللقاء حظوظ راباييت الحياتية أملاً بتحقيق حلمه. بمن قبل خصومه في هذه التجارة الدموية خلافاً لأورسولا وحلمها بالثراء وتصفية حساباتها القبلية العالقة مع قبيلة "اليخونا" المنافسة لها، لكن ذلك لم يغير من نهاية حسمت نتائجها. ما يحسب الى غاليغو راباييت، مما يقوده الى التواصل مع قريبه أنيبال (خوان مارتينيز) أحد مزارعي "الحشيش البري".
ومثلما تنقلب حظوظ راباييت المالية من مهمش الى تاجر للمخدرات، وعبر نقلات زمنية تتوقف عند بداية ونهاية عقد سبعينيات العقد الماضي، فان حياة أورسولا هي الأخرى تصيبها عدوى المال والإنغمار في عالم من الصعب الهروب من عواقبه. صحيح ان راباييت كان يجنح الى التهدئة تجاه منافسيه في تجارة لا تعرف الرحمة أو القرابة، إذ يكفي الشك، مجرد الشك، بتصفية من تدور حوله الظنون. أبقت غاليغو و غيرا خط شريطهما الدرامي محصوراً بما أصاب قبيلة الـ "ويوو" في إطار عائلي تتحرك حوله حبكة الشريط ومن دون حشر موضوعات ثانوية خارجة عن سياقاتها السردية. ولعل المشاهد يجد نفسه إزاء ثراء بصري مشحون بالدلالات الرمزية، تستحضر تقاليد ثقافة قبيلة الـ "ويوو" الفولكلورية والغرائبية، تلك التي وثقتها عدسات الكاميرا بمهارة عالية، ان كانت على شكل أزياء النساء وحلى الزينة، أو ألوان الطيور الغريبة بما تحمله من مرويات أسطورية، أو في شكل نظارات حامل رسائل القبيلة البراقة. ولربما الأكثر سوريالية ودع في مشهد قصر أورسولا وعائلتها المنيف، كأنه يحاكي طراز العمارة الغربية، وسط صحراء قاحلة. فيما جاء مشهد نهاية الشريط أقرب الى إستعارة من شريط "سكار فيس" ولبعض من مقاطع ملحمة "الأب الروحي" لفرانسيس كوبولا. شريط "الطيور العابرة" يمسك بتلابيب مشاهده، وعلى مدى ساعتين، ويحثه الى متابعة نص سينمائي فريد، إجتهد صنّاعه في تأثيث مشاهده بصياغات فنية تقول الكثير عن بلد الروائي غابريل غارثيا ماركيز وبارون المخدرات الأشهر أسكوبار والغني بتنوع إرثه الفولكلوري الضارب في عمق تاريخه المعقد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

"إرنست كول، المصور الفوتوغرافي".. فيلم عن المصور المنفي الجنوب أفريقي

مقالات ذات صلة

فيلم أسامة محمد
سينما

فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" استهداف البيئة العلوية كمنتجة للسلطة ومنفذة لها

علي بدرالحكاية تُروى بالضوء والظلعرض أمس في صالون دمشق السينمائي فيلم "نجوم النهار" للمخرج السوري أسامة محمد، بحضوره الشخصي بعد غيابه عن بلاده ١٤ عاما، الفيلم الذي منع من العرض في زمن النظام السابق...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram