علاء المفرجي
ظلت أمنية المخرج السوفيتي الكبير سيرغي ايزنشتاين التي صرح بها مرة قبل وفاته، تحيرني لسنوات عديدة ، والتي تتعلق برغبته في معالجة كتاب رأس المال لماركس سينمائياً.. من أين سيبدأ؟ وكيف سيخلق حكاية من براثن كتاب نظري مليء بالمعادلات الرياضية ؟ كيف سيكون شكل السرد السينمائي؟ .. حتى اتيحت لي فرصة قراءة كتاب (المكاريد.. حكايات من سرداب المجتمع العراقي).. ليصبح هذه المرة امنيتي في أن يتصدى صانع أفلام لمعالجتها سينمائياً..
وربما سيندهش البعض ممن قرأوا الكتاب، من هذه الأمنية أيضاً، فالكتاب ليس سرداً سينمائياً، لتتعامل معه الكاميرا مع بعض التأويل، والإضافة، وبما أن السرد السينمائي كان أكثر توازياً والتصاقاً مع السينما، لقرب الشراكة في جوهر الحكاية التي يشترك فيها مع السينما، وتبادلت السينما مع الأدب لعبة البناء والشكل، وحيلة تطويع السرد الفني في السينما والأدب، ودليلنا كم الروايات التي افلمتها السينما على مدى تاريخها.
فالمكاريد، كتاب أقرب الى علم الاجتماع منه الى الأدب، ففي هذا الكتاب يدخل محمد غازي الأخرس إلى قاع المجتمع العراقي مقتفياً خطى علماء الاجتماع ومنهم علي الوردي، متناولاً الحياة الاجتماعية بسرد أدبي. ومن خلال مسح أنثروبولوجي عميق معتمداً على طقوس وتفاصيل شعبية، أغاني وقصائد.
سيرة ذاتية ، لاتنقصها الجرأة في قول الحقيقة.. سيرة مجتمع، وسيرة مهمشين.. أصبح نتاجهم الثقافي بمرور الزمن هو القاعدة، وأيضا الحديث عن صراع الهويات الفرعية وإلقاء الضوء على دوافعهما الفكرية والثقافية.. وطبعاً التهميش الذي تعاني منه المدن الفقيرة.
واذا كانت التبادلية بين الادب والسينما هي الشائعة في استلهام نص ادبي للسينما، فان هذا الكتاب الذي يصنف كاحد نصوص علم الاجتماع، سيجد فيه البعض وخاصة من السينمائيين صعوبة كالتي تحدثنا عنها في كتاب (راس المال).
فالفيلم السينمائي وثيقة اجتماعية مهمة تسهم في رسم قوانين حركة وديناميكية المجتمع وفهم طبيعة العلاقة الجدلية بين الإنسان والمجتمع. فهو لم يعد يضع وجها لوجه ظواهر عالم متجانس من الموضوعات، بل عناصر من الواقع غير متجانسة تمام خاصة كما يقول الناقد المغربي محمد شويكة "وأن ميكانيزمات الهوية الاجتماعية قد أصبحت تتحدد بشكل متسرع: كل علامة أو أي عنصر يدخل في تشكيل الصورة، يحمل معه قوة مؤلمة وحقيقية للحقيقة الراهنة."
فعلم الاجتماع يسعى دائما إلى تجديد وتطوير أساليبه المنهجية والبحثية ويطرق عوالم أخرى لاستكمال نظرته للظاهرة التي يدرسها، من خلال التطرق –عبر الإحصاء والوصف والتحليل والسرد- لتحليل النظم الاجتماعية والتراتبات المؤسساتية للمجتمع عبر الفيلم؛ وتكون الصورة السينمائية والحال هذا خطاب يقدم نمطا اجتماعيا معينا وأسلوب عيش للمجتمع عبر الفيلم، لذلك فعلى السينمائي ان يكون ذكيا، فالصورة لا تخلو من تصدير ثقافة معينة.
اكثر من تفصيلة يتضمنها الكتاب، وما على السينمائي الا ان يمتلك حساسية متقدمه في استلهام ما يريد ان يظهره في الفيلم، خاصة وإن الأفلام العراقية (الطويلة والقصيرة) استنفدت موضوعات الحرب والحرب الأهلية، ولم تعد تستهوي جمهور السينما العراقية، بسب سطحيتها واعتماد التقريرية والمباشرة فيها.