لطفية الدليمي
ظلّت مفردة “الثقافة” - ولم تزل - واحدة من أكثر المفردات إشكالية على صعيد المفهوم والتطبيقات، كما ظلّت الدراسات الثقافية -التي تعدُّ حقلاً معرفياً تتداخل فيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وتأريخ الأفكار واللغويات والفلكلور والسياسات الحكومية المؤسساتية- ميدان تجاذب لم يخفت صدى المعارك الفكرية المحتدمة فيه وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث باتت الثقافة وسيلة من وسائل القوة الناعمة في الحرب الباردة ثمّ انقلبت سلاحاً من أسلحة العولمة التي تسعى لتوسيع نطاق الرأسماليات الرمزية المدعمة بمصنّعات مادية تُعلي شأن الاقتصاديات المتفوقة وترسّخ سطوتها على الساحة العالمية.
لكنّ المتابع الحصيف لتأريخ الثقافة والأفكار لن تفوته ملاحظة الانعطافة الثورية التي حصلت في مفهوم “الثقافة” بعد أن جلب اللورد سي. بي. سنو في محاضرته الكمبردجية ذائعة الصيت عام 1959 النظر إلى الهوة العميقة التي تفصل بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية (وهو ما تشير إليه مفردة “الثقافتان” التي صارت منذ ذلك الحين علامة مميزة ممهورة بتوقيع اللورد سنو)، ثمّ تطوّر الأمر حتى بلغنا عتبة “الثقافة الثالثة” التي صارت هي الأخرى علامة ممهورة بتوقيع المحرّر الأدبي جون بروكمان صاحب المدونة الشهيرة المعروفة. Edge.org.
ليس المقصود بالثقافة الثالثة -كما قد يتبادر إلى ذهن المرء أوّل الأمر- أن تكون تركيباً تخليقياً يجمع الثقافة العلمية مع الأدبية ليخرج منها بخلطة ذات عناصر متوازنة من تينك الثقافتين ؛ بل يجادل بروكمان في أطروحته الفكرية بأنّ نموذج المثقف الشكسبيري الذي عُدّ النموذج الأعلى للمثقف الموسوعي حتى خواتيم العصر الفكتوري، لم يعد صالحاً ليكون النموذج المبتغى في عصر الثورات العلمية والتقنية، ولم تعُد الثقافة تمتلك دلالاتها المرجعية بمقدار التمرّس في الدراسات الإغريقية واللاتينية والتواريخ الكبيرة.
وكذلك لم تعد الثقافة دلالة على الانعطافات الثقافية المبتكرة حتى لو تلبّست بمسوح الثورية المتطرفة التي شهدنا آثارها في حركات الحداثة وما بعد الحداثة إلى جانب الحركات الفرعية التي تفرّعت منها أو اعتاشت على نسغها مثل: البنيوية واللسانيات والسيميوطيقا وتحليل الخطاب، وغيرها من مفردات السلسلة الطويلة؛ بل صار العلم وعناصره المؤثرة في تشكيل الحياة البشرية وغير البشرية هو العنصر الحاسم في الثقافة الإنسانية بعد أن غادر العلم مملكة الأفكار والرؤى الفردية والأيديولوجيات وصار قوة مرئية على الأرض بفعل مُصنّعاته التي وصلت إلى أدقّ تخوم الحياة البشرية.
ثمة ما يتوجّب الإشارة إليه في هذا الشأن: لم يعُد من اعتبار يذكر للرطانات اللغوية والفكرية المتعجرفة التي تدّعي السعي وراء الأفكار الكبيرة؛ بل صار المقياس الحاسم هو التأثير الإجرائي في طبيعة الحياة، وفي الوقت ذاته لا ينبغي أن نتوقّع سهولة الدخول في عصر الثقافة الثالثة لأن لكلّ عصر مريديه المنافحين عن سطوتهم الفكرية والاعتبارية فيه، ويمكن في هذا الميدان الإشارة إلى الهجمة الارتكاسية التي شنّها المثقف على الطراز الفكتوري أف. آر. ليفز على اللورد سنو، وهي هجمة شابها الكثير من السفه والنية السيئة.
إنّ أقطاب الثقافة الثالثة ما عادوا كائنات شكسبيرية أو أناساً مهووسين بتداعيات ما بعد الحداثة؛ بل هم علماء مشتغلون في حقول الذكاء الاصطناعي أو الوعي البشري أو تقنية المصغرات (النانوتكنولوجي) أو الروبوتيات أو الفيزياء الكمية أو الكوسمولوجيا أو الجينوم البشري أو النظم الخبيرة أو الأوتار الفائقة أو رياضيات النظم الفوضوية أو الفضاء المعلوماتي السايبيري؛ أما المعتاشون على الفتيت المتساقط من موائد ما بعد الحداثة فليسوا سوى كائنات كسولة استمرأت العيش على الذكريات غير المنتجة.