طالب عبد العزيز
أتصل بنا، أحد الاقرباء، ليعلمنا بانَّ المحطة باشرت اليومَ بضح الماءَ حلواً، عذباً، فهُرع كل من في البيت الى حنفية، يفتحها، في سعي محموم منهم، لكأنه من سعي يوم القيامة، وتعالت صيحات، هذا يقول: أي والله، وذاك، يا الله، اللهم لك الحمد والشكر. نعم، ماء حلو لناس لا يملكون إلا الدعاء. لكن، في الحقيقة، لم يكن ماء الحنفية المرجوعذباً، أو الماء الذي انتظرناه، قادما لنا من نهر البدعة، فالبدعة ما زالت بعيدة. كانت السماء رحيمة بمطرها، ليس إلا، فتغير طعم الماء بعض الشيء، خفّت نسبة الملوحة في شط العرب، هذا كل ما في الأمر.
تحدثت الحكومة كثيراً عن حلول عاجلة لأزمة الماء في البصرة، عقب تظاهرات الصيف الماضي، التي اجتاحت المدينة، والتي سقط إثرها الشهداء، واحترقت المباني الحكومية، وكانت على وشك استقدام الشركات الاجنبية مستشَارةً ومنفِذَةً، لكنها، صمتت بعد ذلك، مشغولة بالمكان الجديد الذي ستجلس فيه، واكتفت بدم الشهداء دالة على عجزها وفساد ضميرها، وبالمباني تحترق، بانتظار من سيأتي لإعادة بنائها، لعلمها بان المطر سيحل الأزمة، وستزداد إطلاقات دجلة، وحتى الصيف القادم سيكون غالبية أعضائها خارج المبنى الحكومي، فقد انتهت الدورة الانتخابية هذه، فيا أهل البصرة، سيأتي الله لكم ويحل الأزمة، تلك مسؤوليته.
بين مسؤول فاشل وآخر فاسد ضاعت أموال، وتبددت موازنات، بعضهم يعوّل على الطبيعة وما تجود به، وآخر يرمي بفشله على الحكومة الاتحادية، وسواه يتذرع بالصلاحيات، وهكذا وصمت المدينة بأنها من أسوأ مدن الأرض.
أمس، كنت في الفاو(110 كلم) جنوب البصرة، ورأيت آلاف الفسائل التي هلكت والآلاف من النخل وقد إصفّر عطشاً وملحاً، وحين سألتُ الذين غرسوه قالوا: إنهم بدأوا بغرسه بعد نهاية الحرب مع ايران خاتمة الثمانينات، وأنهم استقدموا لبساتينهم الفسائل من بقاع الدنيا، في مسعى منهم لإعادة الحياة الى الارض، التي دمرتها الحرب، وكانوا فرحين بثمره وينعه وظلاله، لكنهم وفي كل مرة يجتاح الملح أنهارهم، كانوا يتضرعون الى الله ألا يلجئهم الى الحكومة، ولأنهم متروكون هناك في السباخ البعيدة فقد كان الله مستجيباً لتضرعهم، سنة وثانية وثالثة، لكنه تأخر عليهم السنة هذه 2018 فهلك ما هلك من الشجر والخضار، وإصفّر ما إصفّر أو راح يصفرُّ تباعاً من النخل، آخذا طريقه الى الهلاك. ونحن كما ترى.
ما رأيته في قرى الفداغية والدواسر وسيحان والسيبة يوجع القلب والله، حتى القناة الإروائية التي أنفق على شقها وتبطينها المليارات أمست مالحة، أما الشط العظيم فقد تحول الى بركة ملح، تمخر عبابه السفن والمراكب الإيرانية حسب، فموانِئنا لهم وبضائِعنا منهم، إلا الماء فهو مشترك بيننا. قد لا يملك الفلاح الفقير وسيلة أحتجاج، وقد لا يقوى على مواجهة حكومة فاسدة، تمترست بالدين ومرجعيات الفرات الأوسط، فاستولى بعضهم على المساحات الواسعة من الاراضي، وأقاموا القصور والدور مستفيدين من صمت المساكين هؤلاء، الذين لم يملكوا إلا الدعاء والتضرع، لكن الأيام تقول: إنهم لن يفلتوا من قبضة الله. فهو يمهل ولا يهمل، هكذا يجيبني أحدهم، فأقول: الدعاء رأس مال الفلاح المفلس.