شاكر لعيبي
نعاود التفكير بجملة الأميركي ستيفن رايت (Steven Wright): "كنتُ أقرأ في القاموس، وفكّرتُ أنه قصيدة حول كلّ شيء"، ونحن نتلمّس العلاقات الداخلية المثيرة الواقعة في الفعل العربيّ (دَجَجَ)، ومنه تخرج مفردات (الدجاجة) و(الداج [في مقاربتهم بالحاج أي الحجاج]) وربما (المُدجَّج).
وفي أصل الاستخدام أن دجَّ القَوْمُ يَدِجُّونَ دَجّاً ودَجِيجاً ودَجَجاناً مَشَوْا مَشْياً رُوَيْداً في تَقارُبِ خَطْوٍ؛ وقيل: هو أَن يقبلوا ويدبروا، وقيل: هو الدبيب بعينه. ودَجَّ يَدِجُّ إِذا أَسرع، ودَجَّ يَدِجُّ ودَبَّ يَدِبُّ، بمعنى [واحد]. لا يقال يَدِجُّون حتى يكونوا جماعة، ولا يقال ذلك للواحد، وهم الدَّاجَّةُ. وأَقبل الحاجُّ والدَّاجُّ: الذين يحجون، والداجُّ: الذين معهم من الأُجراء والمُكارينَ والأَعوان ونحوهم، لأَنهم يَدِجُّونَ على الأَرض أَي يَدِبُّونَ ويَسْعَوْنَ في السفر.
والدِّجاجة والدِّجاجةُ: معروفة، سميت بذلك لإقبالها وإِدبارها، تقع على الذكر والأُنثى، لأَن الهاء إِنما دخلته على أَنه واحد من جنس، مثل حمامة وبطة. ودَجْدَجَ بالدُّجاجة: صاح بها فقال: دِجْ دِجْ. ودَجْدَجْتُ بها وكَرْكَرْتُ أَي صِحْتُ. ودَجْدَجَتِ الدَّجاجةُ في مشيها: عَدَتْ. والدُّجُّ: الفَرُّوج.
كل ذلك منطقي إلى حد كبير.
لكن الدَّجاج هي الكُبَّةُ من الغَزْلِ، والدَّجاجةُ: ما نَتَأَ من صَدْرِ الفَرَسِ؛ قال الشاعر:
(بانتْ دَجاجَتُه عن الصَّدْرِ)
وهما دَجاجتان عن يمين الزَّوْرِ وشماله؛ قال ابن بُراقة الهَمْداني:
(يَفْتَرُّ عن زَوْرِ دَجاجَتَيْنِ)
ثم تأتي بعد ذلك في المادة نفسها: الدُّجَّةُ، بالضم، وهي شدّة الظلمة، وكل ما يتبع هذه المفردة فهو في تقديري من الفعل (دجا)، والدُجى هو سواد الليل مع غيم، وأن لا ترى نجماً ولا قمراً، وقيل هو إذا ألبس كل شيء وليس هو من الظلمة، وقالوا ليلة دجى وليال دجى.
نعم، أنت تجد مادة طويلة تحت (دَجَجَ) هي في الحقيقة من اختصاص (دجا). وتدجى الليل وقد تَدَجْدَجَ الليلُ؛ وليلٌ دَجوجٌ ودَجوجيٌّ ودُجاجي ودَيْجُوجٌ: مظلم. وليلة دَيْجُوجٌ. ودَجْدَجَ وشَعَرٌ دَجوجِيٌّ ودَجِيجٌ: أَسود؛ والدَّجِيجُ والدَّجْداجُ هو الأَسود من كل شيء. وليلة دَجْداجَةٌ شديدة الظلمة.
ما يشفّ من مادة (دَجَجَ) أن فيها تقع أفعال مثل دَجَّجَتِ السماءُ تَدْجِيجاً: غَيَّمَتْ. ومن ذلك يخرج استخدام استعاري آخر، شعريّ تماماً هو "تَدَجَّجَ في سلاحه" أي دخل كأنه تغطى بالسلاح فأظلم شخصه فلم يعد واضحاً للأبصار. ويمكن الافتراض أن هناك علاقة خفيّة بين الأصلين (دَجَجَ) و(دجا) ذلك أن تغييم السماء يتمّ ببطء واضح (أو يدجّ) مثلما يتم مشي الدواج بالبطء نفسه. هذه فرضية تستحق التقييم والفحص.
المُدَجِّجُ والمُدَجَّجُ إذن هو المُتَدَجِّجُ في سلاحه. المُدَجْدِجُ اللابس السلاح التام؛ المُدَجِّجُ الفارس الذي قد تَدَجَّجَ في شِكَّتِه أَي شاكُّ السِّلاحِ، قال أَي دخل في سلاحه كأَنه تغطّى به. وفي حديث وهب (خرج داودُ مُدَججاً في السلاح)، أَي عليه سلاح تام، سُمي به لأَنَه يَدِجُّ أَي يمشي رُوَيْداً لثقله؛ وقيل: لأَنه يتغطّى به، من دجَّجَتِ السماءُ إذا تَغَيَّمَت. والمُدَجَّجُ الدُّلْدُلُ من القنافذ.
إن تعليل صفة (المدجّج) أنه ذاك الذي يَدِجُّ أَي يمشي رُوَيْداً لثقله، يعيدها من جديد إلى الأصل (دَجَج)، وهذا الفعل يُشخِّصُ بالأحرى نوعاً من المشي يشترك به الدجاج والحجاج.
وفي الأقل فإن مقاربة مشي الدجاج بمشي الحجاج، لهو من المخيّلة العالية بمكان.