ستار كاووش
- 1 -
لم يكن بوسعي -بعد أن تجولت في المتحف- إلا العودة الى اللوحات الثلاث التي تمثل أوفيليا، والمعروضة ضمن معرض الفنان البريطاني ووترهاوس، في متحف خروننغن شمالي هولندا. فمهما إبتعدتُ عنها لمتابعة ببقية لوحات المعرض، أراني أفكر بها وأحاول الرجوع لمشاهدتها من جديد! ياللفتنة والغموض الذي يفيضُ منها، ويالروعة الفن الذي يحكي الكثير من خلال التقنية المذهلة والسحر الذي ينساب من قماشات الرسم، ليغمر الصالة كلها بخدر من نوع غريب. وقفتُ أمامها أكثر مما يقتضيه الوقوف أمام لوحات زيتية، حتى كدتُ أشمُّ عطر أوفيليا وأتحسس نعومة ثيابها وأراقب بريق عينيها الذي صار يخبو أسوة بالزهور التي تتأرجح بين يديها. أفكر بمحنتها وأتتبع أسلوب الرسام وهو يمر عبر شكسبير لِيُرينا حكاية الفتاة الحالمة وإرتجافة أصابعها قبل حدوث الفاجعة. أوفيليا تلك الفتاة الجميلة التي وقعت بين تشدد والدها بولونيوس (لورد شمبرلاين) وغرابة حبيبها هاملت الذي قَتَلَ أبيها بالخطأ، لتواجه فيما بعد مصيرها المحتوم غرقاً في النهر صحبة الزهور.
كثير من الرسامين تناولوا موضوع أوفيليا وقد بلغت اللوحات التي جسدت حكايتها أكثر من خمس عشرة لوحة، بعضها لوحات شهيرة وأخرى أقل شهرة. ومعظم الذين تناولوها، فنانون بريطانيون- رغم أن أحداث المسرحية تقع في الدنمارك- وذلك لأن شكسبير يُعتبر أحد أعمدة ثقافتهم ولغتهم وتاريخهم بشكل عام. وقد اختلف هؤلاء الفنانون في إلتقاط لحظة الحدث والزاوية التي نظروا من خلالها الى أوفيليا، لكنهم إتفقوا جميعاً على الزهور التي صاحبتها، والتي تشير ألوانها الى رموز رومانتيكية وفجائعية في ذات الوقت، مثلما تناولها شكسبير. كذلك رَكَّزَ الرسامون على الاحساس بالهلع والشرود البادي على ملامحها، وخاصة عينيها الذاهلتين، قبل أن تقدم على الانتحار أو الغرق. لقد وقف أبيها في طريق إرتباطها بهاملت، وتعاظمت حيرتها أمام هذا الأخير الذي إدعى الجنون أثناء بحثه عن قاتل أبيه، ليقودها كل ذلك الى مصيرها المحتوم.
من الأعمال الجميلة التي تناولت هذا الموضوع، لوحة الفنان الكساندر كابانيل الذي رسمها بفستان أبيض، موشكة على الغرق، يتصاعد شعرها فوق الماء بعد أن إتكأت على غصن مكسور لشجرة كبيرة تظلل المكان. بينما جعلها الرسام جورج كلايرين تقف منتصبة بثوبها الازرق الكوبالت، تغطي الزهور رأسها وكتفيها، في حين تتدلى زهور أخرى من يديها وهي تنظر الى البعيد نظرة وداع، ممتثلة لموتها الأكيد. وقدمها الرسام آرثر هوس بثوب أبيض، حاملة بعض الزهور بيد، وترفع اليد الأخرى ملتفتة بنظرة مباغتة نحو الرسام قبل أن تغيب. والرسام ماركوس ستون صورها تتكيء علـى نافذة، تحتضن زهورها وتنظر الـى أعلى الأفق، حيث سترحل بعيداً، بينما يظهر بجانبها جزء من آلة موسيقية إشارة الى انها كانت تهوى الغناء كما صورها شكسبير. وإختار لها الرسام جوليس لفيبفر أن تمشي وسط الماء تحيطها الزنابق، وتستقر على رأسها بعض الزهور، في حين تتساقط زهور أخرى من يديها نحو الماء، كرمز لغرقها القادم. وعند الرسام جوزيف باستيان ليبيج، قامت بوضع كفيها تحت وجهها وهي خائرة القوى قرب النهر، على وشك أن تغمض عينيها، لتذوب في المشهد. وشرد الرسام فرانسيس مكدونالد مع خياله أكثر، فجعلها تسبح في فضاء اللوحة بثوبها البنفسجي وكأنها تطير الى الأعلى، بينما تتحرك بعض النباتات والزهور ومجموعة من الفراشات البيض، لتشكل دوامة تلتف حولها، وهي تستجيب لذلك بنعومة وتحرك يديها بإيقاع يتماهى مع خطوط اللوحة وشفافيتها.
مع ما رأيته من أعمال صورت هذه الفتاة، تتقدمها لوحات ووترهاوس العظيمة، فكرت أن حكايتها قد وصلت الـى النهاية، بيد أن حكاية أوفيليا معي لا تريد أن تنتهي برويَّة وسلام! فها أنا أجد نفسي من جديد متسمراً وسط متحف تيت غاليري في لندن وعينَيَّ شاخصتان على لوحة ميليه المهيبة التي رسم فيها أوفيليا قبل هؤلاء. وأمام هذه اللوحة، ليس لأي إنسان نزيه ومحب للجمال، سوى أن يهتف اعجاباً لواحدة من أعظم ما قدمه فن الرسم عبر تاريخه الطويل. ولهذه اللوحة حكاية غريبة أخرى، سأتحدث عنها في الأسبوع القادم.