طالب عبد العزيز
في البلاد التي يقضم الملح أطرافها مرتين في النهار والليلة، في البلاد التي يلحف بائع العتيق بحنجرته الزنخة، منادياً على بضاعته في سككها وأوديتها، ويساومك الشرطي على مدفن أخوتك وأهليك فيها، في البلاد التي إنْ عددت أسماءها خانتك لغتك، وخذلتك المعاجم ما وجدت اليم سبيلاً، ثمة من يجبرك على البقاء فيها، ثمة من يصيح قطاره بروحك: أخرج، ففي الارض منأى للكريم عن الاذى.
لكن،هي ليست قطعة الطين التي ورثتها عن أبيك، ولن تكون كوخ السعف والجريد، الذي ولدت في زاويته الميتة، أبداُ، وهي ليست المسافة القاتلة بين بقائك ورحيلك، لطالما حدثتني بحديث البقاء، ولطالما حدثتك بحديث الرحيل والهجرة، ثم أنني شرقت وغربتُ في بلاد الآدميين، ووقفت على الصخور النائية بين المتوسط والاطلسي، على الخزر وشواطئه، وهبطت وديان لا يعرف لها غور وركبت الفيلة في الغابات، وفي الاقفاص تضايقت من رائحة القتلة وفضلات الوحوش، فلم أجد العالم إلا فسحة ضيقة للأمل، سرعان ما تتقلص وتتلاشى، فقل لي إلى أين أذهب؟ كان البريكان الشاعر يقول: "أوثر أنْ أظلَّ على جوادي، من مهبِّ ريح إلى مهبِّ ريح.." .
لكنْ، ها أئنذا، من نافذة غرفتي أسمع صوت الجرّافة تزمجر، وأتطلع الى النخلة وهي تستسلم، هاوية الى الارض، يُفزعني الصوت فألوذ بالستارة، كتانيةً وبتراب كثير، ومثل مفجوع بابنه تنفرط حبّات روحي على التراب، أروّضها بكأس من العرق القاتل، لكنْ، لا أحد يفزع معي، يلمُّ ما تطاير على الارض من دم السعف والشماريخ، يتامى الجذع المفرد أمام الحديد، الذين لحقوا أمهم في حزمة العروق والسعف والعذوق والتراب، ومثلما يحول المشيّعون بين أمٍّ ونعش ابنها على طريق سبخة الى المقبرة، كانت الجرّافات تحول بين النخلة وفسائلها، تفصل هذا عن ذاك، وتمرغ بالطين والحطب ما ظل يتفصد تباعاً على الجادة، لطالماً كنت آخذها الى الشط الكبير بين عطر يُتفادى وبلابل تسبقني الى هناك.
أنا، كل سكة بلل المطر ترابها الى هناك، كل ترعة ملأها السكان الجدد بقناني الماء الفارغة والاطارات، أنا الحارس الذي خذلته اليقظة في ليل الشامتين، حامل المناجل الى هاجرة السباخ، حيث لا احد يدله هناك، بي من النأي ما لو فرقته على السكك التي بأبي الخصيب والزبير لوسعتها، عندي من المجاذيف ما لو تناهبته الانهار لأخذ كل نهر ضالته منها، وبما لا يدركه الموج عندي من الشباك، الفها كل ليلة على كواسج روحي، ما يتفلت منها يكفي لالتهام كلاب الصمت الذي تحيطني. هل أقول باني ما زلت امسك طرف الحبل الغليظ الذي أوثقه السادة الخصيبيون الى شجرتهم الأولى.
أنا السكون الذي يرين على ماكنة السقي، التي أوقفها صاحبها يا ئساً على النهر، يوم حشرجَ الملحُ في قناتها، التي بين القصب. أبينكم من يعي ما أقول؟ أبينكم من غرس فسيلاً ثم، وبعد ثلاثين حولاً شهد لحظة اقتلاعها؟ أدخلتم معي كوخ القصب والجريد، أرأيتم فاجعة ما أنا فيه، وقد وقفتُ بين منخلع من النخل ومهجور من المناجل والمذاري والثياب؟ بين صادق من الشجر ومكذب لما يحدث، بين سعفة وأخرى تقول لصاحبتها: أينك؟ بين قمر يتلعثم في الفضاء الذي انفتح تواً، أيَّ ثرى ألثمه لأقول له يا أمي؟