فوزي كريم
لقد اعتدت من زمن أن لا أقرأ الكتّاب، وأتابع مخرجي الأفلام، وأصغي إلى الموسيقيين، وألاحق لوحات الرسامين الذين لا يتمتعون بالقدرة على الامتاع والنفع في آن؛ الامتاع بفعل الجمال، والنفع بفعل المعرفة وثمرتها الحكمة، لأجد في هذين أبسط حقوقي كمتلقٍ، وأكثرها جوهرية في منحي قدراً من الإضاءة في نفق حياتي الخاصة والحياة العامة. الجهد الذي أمنحه يهدف إلى هذين، بحكم البديهة، التي لا أتخلى عنها في كل مسعى. فكما كنت أجهد في مراحل الدراسة، دون مكافأة إلا النجاح في الامتحان، أجهد على كبر ونضج، ومكافأتي التمتع بالجمال، والاغتناء بالمعرفة. حين أنتهي من أي كتاب أقرأه يرتسم أمامي هذان المعياران: كم استمتعت؟ وكمْ عرفت؟ وكل ما تبقى دونهما فضول واجتهاد. اليوم يهجم القراء على الكتب، وتهجم الكتب على القراء في معترك ينطوي على نوايا لا عافية فيها. كمْ أسرّني صديق بأنه قرأ معظم كتب الفرنسي "باشلار"، وكم تمتع معها وانتفع. وإذا ما شاورته أن نقرأ صفحاتٍ من واحدة منها سوية، علّني أتمتع معه وأنتفع، لأني ببساطة لا أُحسن قراءة الرجل، يتغضن وجهه كمن يقع في شرَك. وهذا ما فعلته مع قراء الفرنسي "دريدا". وردود الأفعال واحدة؛ الشعور بهتك عذرية "الجمال" و"المعنى" البكورييْن. فمن يجرؤ أنْ يتصيد "معنى" من هذين؟ معترك القراءة لديهم كمعترك الجبهات في الحرب؛ أهم ما فيها رضا الرابح، أما فعل القراءة فمستور شأن جثث القتلى.
قراءة "باشلار"، يقول كتاب في الانكليزية عنه، "تستدعي وقتاً بالغ البطء، لكي يقطع القارئ شوطاً مع هذا الأسلوب "الانفعالي" بامتياز، ولكن المنطوي على بحر معارف في علم الوجود، والتأويل، والجمال، والأخلاق، والنفس، والعلوم البحتة، والفنون، والدين، إلى جانب دراسات في العلوم البيئية، والسياسية، والثقافية.." هذه العلوم تتداخل في "أسلوب انفعالي" فرنسي، تستحوذ عليه "مخيلة" ذات طاقة تحولية على الدوام. القارئ المثقف الفرنسي، والغربي جملةً، لم يستطع أن يُمسك بالخيط، ولذا فسرعان ما طوى الإهمال "باشلار" بعد موجة "التفكيكية". المثقف العربي يرى أن من حق "باشلار" أن يُبعث من جديد على يديه، فترجم كل أعماله باحتفاء لم يسمع به المؤلف، لأن الرجل توفي عام 1962، ورخّص للشاعر أدونيس أن يطالب الكاتب العربي بأن يكتب على هداه "علماً بلغة الشعر، وشعراً بلغة العلم". طبعاً، استجاب المئات، بل الألوف من الكتاب لهذا النداء، ووضعوا كتباً تحتقر "طين المعنى"، ووضوح الرؤية، وصحوة العقل، معززين بـ "تفكيكية" عظيمة الحرص على ذلك. تمّ الأمر بتوفيق تام تحت مظلة عربية لم يشهد التاريخ الانساني أحط وأحلك وأفسد وأجهل من ظلالها، التي تلقيها على حياة العباد.
لقد اعتدتُ من زمن على التساؤل: لمَ أمنح وقتاً من عمري، الذي أحسبه وجيزاً، لمفكر شاء له هواه الفكري تحت مظلة العافية الغربية، والترف الغربي، أن يأخذ مدى في العاطفة ومدى في المخيلة لا تريد أن تعتمد وضوحاً وبصيرة أنا أحوج ما أكون إليهما؟ لمَ أمنح وقتاً من عمري الوجيز، لمفكر في أي حقل من هذه الحقول التي أشرت لها في مطلع هذه المقالة، يسعى جاهداً لأن يضعني، عن إرادة منه أو عن غير إرادة، بنيّةٍ واعية أو غير واعية، مبيّتةٍ مسبقاً، على مشارف هاوية، تمليها عليه مركبات نقص ولوثات داخلية خاصة به؟ مشارف هاوية من اللامعنى، أو المعنى اللذين يحتاجان إلى علاجٍ سريريّ.
كم مرة خرجت من فيلم للإيطالي "بازوليني" أو الألماني "فاسبندر" أو الفرنسي "كودار" وأنا جدار آيل للسقوط. وكم من مرة حدث الأمر ذاته مع كتاب لـ "دريدا" و"فوكو" و"باشلار"، وعمل موسيقي لـ "شتوكهاوزن"، وعمل فني لـ "بيكون"؟ وكيف يفترض المثقف "البديل"، العربي أن خياري مُطفأ مع نتاجه هو في تصريف وقتي في تحصيلي الجمالي والمعرفي؟
لي بهذا الشأن خبرة العارف: صفحة الكتاب الأولى كفيلة بالحكم، كما يكفل المقالة سطرُها الأول.