طالب عبد العزيز
سأمنح ظهري مبنى فندق الشيراتون، وأولي وجهي شط العرب العظيم، وسواء اكان ماؤه ملحاً أو بلا نوارس، ولا شأن لي بذوي السترات الصفر، الذين اقتحموا السور، وسواء عندي، أضربوا بالأحذية سيارة المحافظ والوزير والوفد المرافق له أم لا ؟ يا للسخف (الوفد المرافق له) هذا شأنهم، فأنا رجل سلبي جداً اليوم، ثمة نسائم، تأتي من الشط، أريدها لقلبي المريض. ثمة صيّاد سمك سيأتي يبيعني من صيده الطري، هناك أكثر من موجة بانتظاري... يكفيني ما تحملته مع أسرتي، من سوء معاملة السلطات ومطارة رجال الأمن البعثيين، قبل أربعين عاماً، أليس هذا هو النضال ؟ أنا مناضل إذن، أي تفاهة تلك التي تنتظرني، لا أريد أن أسجن في تظاهرة، أي تظاهرة بعد اليوم، حتى إن كانت ترفض ترشيح فالح الفياض، وزيراً للداخلية.
أليس من العار أن أتعرض للسجن والطرد وربما الموت، من أجل حفنة من التافهين. دستور سخيف وقوانين قذرة وقضاء جبان وحكومة تخاف من عملائها وبرلمان حاصل بامتياز على شهادة أسوأ برلمان بالعالم، وبلاد كل ما فيها مسرطن ونافق وآيل؟ أمن أجل هذا كله يتوجب علي أن أطارد أو أنفى وأسجن، لكي يسميني أحدهم مناضلاً ؟ وأنا لا أملك بيتاً لائقا بي، لا شارعاً أركض عليه، كيما أحمي قلبي من جلطاته المتعددة، أستجدي كأس النبيذ من أصدقائي المسافرين الى هناك والهناك، أعطش، فأتوسل سائقي الصهاريج بضعة لترات من الماء الحلو، فلا يتلفت لي احد، أقلب طرفي في مدينة ما عاد السكن فيها شرفاً لأحد، فهي تُمسخ كل يوم، ويُعرض الباهرُ والجميلُ من أنسانها عبداً بين أيدي تجار الحروب ودهاقنة الظلام، أنا، محاصرٌ بالضجر والسام من كل جانب، في مدينة ما عدت أفرق بين وقوفي على بوابات دوائرها الأمنية بالامس وأبواب مقرات أحزابها الاسلامية اليوم.. يا للبؤس !!
فليدخل المبنى الحكومي مَن يدخل مِنْ سقط متاع رجال السياسة، وليقف محتجّاً، متظاهراً أمامه من يشاء من الوطنيين والمخلصين والطيبين، ما أنا بين هذه وتلك، إلا عابر سبيل، لقد انقضى عهدي بحب المدن والبكاء على اطلالها والتاسي بحياة مناضليها وقراءة سير الابطال المساكين، إذ، لا رصيد عندي في بنك البطولات، ولا بندقية بيدي في معارك الكفر والايمان، ولا شجرة لي في غابة الحلم، ولا أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه السوقة والمطهرچية، أنا، نصف مقيم ونصف راحل، بعض من وهمٍ تعبت أسقي شجرته، شيء مما يعلق بأحذية العابرين في الليل الى صفحة الغد والامنيات، صفعة أخ أكبر على خدٍّ لم أنتفع به إلا لصدِّ الريح الباردة والدمع. أريد أن أكون صادقاً مرة واحدة في حياتي. أتعبتني الكتب وأخذت الاناشيدُ نصيبها من قلبي.
هذه الموجة الألف بعد المئة، تضرب بزعنفتها الصخرة البليدة، حيث أنظر وأتأمل، لن يخدعني جسدي ببذلة جديدة، بعد اليوم، ولن أغويها، عيني بأكثر من صورة باهتة في الضفة الأخرى. سأظل، هنا، على المصطبة الخشب هذه، أرمي ببصري الكليل الضفة النائية تلك لكن، لن أدير ظهري للشط، شط العرب الكبير، وإن تظاهر عشرات الآلاف، ليصفعوا بها من شاؤوا من الرؤساء والوزراء والمحافظين، بعض مسراتي أن تملأ أحذيتُهم قاعة المؤتمرات.