ستار كاووش
-٢-
مثلما يبحث الكثيرون عن الذهب واللقى الأثرية والأحجار الثمينة، أبحثُ عن ذلك أيضاً. لكن كنوزي التي أبحث عنها هي الأعمال الفنية القابعة في المتاحف. كنوز أقفُ أمام هيبتها، فتمنحني نوعاً من الطاقة الجمالية، وتعلمني كيف كان هؤلاء الفنانون العظام متوحدين في مراسمهم مثل كهنة، يساعدهم سحرة جاءوا من مكان بعيد، ليمدوا لهم يد العون في تحضير الصبغات ونسج الحكايات الملونة من خيوط الخيال. أحاول أن أقترب دائماً من اللوحات التي تجعلني متمسكاً بالرسم كأحد الحلول التي ترتكز عليها حياتي، أما أدواتي الاستكشافية، فهي شغفي ومحبتي وتذوقي للفن، ومحاولتي الدائمة لسبر أسراره. ولكوني رساماً، فذلك يساعدني للوصول الى نوادر الاعمال التي أنجزها مجموعة من العباقرة الذين غادرونا وتركوا بين ايدينا هذه المسرات والكنوز.
وبعد أن شغلتني طويلاً اللوحات المتعددة التي تمثل أوفيليا، فها أنا أجد نفسي واقفاً وسط متحف (تيت غاليري) في لندن، مذهولاً أمام أعظم لوحة مَثَّلَتْ أوفيليا، وأقصد لوحة الفنان البريطاني جون إيفيريت ميليه (١٨٢٩-١٨٩٦) التي رسمها مستلقية في النهر وهي تستسلم لغرقها.
كانت الشابة الجميلة اليزابيت سبدال تتنقل كموديل لبعض رسامي جماعة (ماقبل الروفائيلية)، وفي صباح أحد الأيام، كان الرسام الشاب ميليه يجوب أروقة الأكاديمية الملكية في لندن، فلاحظها تخطف أمامه، فخطفت معها روحه وبصره. وأثناء محاولته اللحاق بها، أخبره بعض أصدقائه بأن هذه الجميلة، هي ذاتها الموديل الجديد التي تجلس لبعض أصدقائه الفنانين. وفي اليوم نفسه تعرف عليها وأقنعها بأن يرسمها بهيئة أوفيليا.
إحتاج ميليه وقتاً طويلاً كي يهيء الأفكار والدراسات الخاصة بلوحته، وذهب ليستقر مع صديقيه الفنانين وليم هنت وتشارلي كولينز في منزل ريفي في (أيول ساري) بضواحي لندن، لينجز رسم الخلفية التي يشكلها المنظر الطبيعي، حيث قضى أياماً وهو يجلس بمحاذاة نهر هوغسميل كي ينهي مجموعة من الدراسات للأعشاب والزهور والأحراش وتأثير الماء، إستعداداً لتنفيذ لوحته الخالدة. ثم عاد الى مرسمه في لندن وأنهى رسم الطبيعة فقط دون أوفيليا. وعندما حضرت الفتاة كي تأخذ وضعها كموديل، فوجئت برؤيتها بانيو الحمام وقد إستقر وسط المرسم يملأه الماء، وهنا طلب منها ميليه أن تستلقي بكامل ملابسها في البانيو وهي تمسك مجموعة من الزهور. إستجابت لطلبه على مضض، بينما انشغل هو بالرسم. وهكذا إنهمك في عمله أياماً طويلة، وهي كل يوم على هذا الحال. كانت تشعر بالبرد، وهو يحاول أن يخفف من وطأة ذلك بأن يشعل بعض المصابيح الزيتية حول البانيو وتحته لتدفئة الماء، لكن ذلك لم ينفع كثيراً. وعند انتهاء الرسم أصيبت بنزلة برد حادة، دخلت على أثرها المستشفى، ليتقدم أبوها بشكوى للمحكمة ضد الرسام الذي تسبب بمرض ابنته الشابه، وهكذا حكمت المحكمة بأن يدفع الرسام أجرة الموديل مضافاً لها أجور المستشفى.
تعتبر هذه اللوحة أجمل لوحة مثلت أوفيليا من حيث اسلوب الرسم والمناخ العام والرمزية التي حملتها، كذلك وضَّفَ ميليه الأزهار في اللوحة كما وصفها شكسبير، حيث يرمز الأقحوان للبراءة، والورد يعبر عن الحب والجمال، بينما يشير الأرجوان الى عذرية أوفيليا. ألهمت هذه اللوحة الكثير من الفنانين والكتاب على مرِّ السنوات، وكانت قد عرضت لأول مرة في معرض الأكاديمية الملكية سنة ١٨٥٢، ولم يهتم لها النقاد كثيراً. وبعد انتهاء المعرض حملها ميليه وخرج من الأكاديميه، ليلحق به تاجر اللوحات (هنري فيرر) ويشتريها منه مباشرة. بعدها تنقلت اللوحة بين عدة أشخاص لتستقر سنة ١٨٩٢ لدى السيد هنري تيت الذي يحمل اسمه هذا المتحف الذي أقف وسطه الآن، وأنا أتطلع الى ذات اللوحة التي تعتبر من نفائس الفن البريطاني، لما تحمله من دراما هائلة وخيال وابتكار وتقنية مذهلة.