طالب عبد العزيز
في حديث جانبي مع أصدقاء أدباء، انسحب الحديث بنا الى مفهوم الثقافة في الحياة، وما إذا كنا حقاً(كمجتمع) قد انتفعنا بالثقافة، ولكي نحدد مفهوم الثقافة، ومن وجهة نظر تقليدية جداً نقول هي:( الشعر والرواية واللوحة والقطعة الموسيقية والسينما والمسرح وووو) وهي قطعاً ليست كذلك، في مجتمعات متطورة أخر، لأنها هناك مفهوم حياتي كامل، يتصل بالمباني والطرق والثياب والبيت والمطبخ والعلاقات ... فقلت: إن ما نفهمه عن الثقافة ونحاول تطبيقه في حياتنا لا يتجاوزنا، نحن متعاطي الثقافة، الذين لا نشكل 1% من تركيبة المجتمع العراقي، أما البقية فهناك مفهوم آخر للثقافة عندهم. تذكرت الحفل الذي أقامه أحد شيوخ العشائر بمناسبة زواج ابنه(الضابط) في البصرة، الذي قطع الشارع العام، وأقام الخيام، وقدم البعران مطبوخةً، كل بعير على طبق طويل، يحمله عشرة أشخاص، والبعير جائم على تل الرز، في مشهد أقل ما يوصف به بانه مقزز.
قطعاً، لم يكن المشهد مقززاً، عند جماعة المدعووين، فالصورة النمطية للطعام والبعير والخيمة الراسخة في أذهانهم، ما زالت لم تتغير، منذ مئات السنين، قد يقول أحد الذين يقرأون مادتنا هذه، وما الضير؟ هذه ثقافة مجتمع فأقول: نعم، هي كذلك، بكل تأكيد. وهنا، ستصيبني الخيبة بأقسى سهامها، إذْ ما قيمة ما نكتبه ونرسمه ونخطه ونتخاصم من أجله ونتعرض للسجن والنفي والموت بسببه؟ ماقيمة صراخنا الطويل على طريق المدنية والتحضر والرقي؟ ولماذا لم تفلح أعمالنا في الشعر والرواية والموسيقى واللوحة في تغيير الصورة النمطية تلك، وما قيمة كلياتنا ومعاهدنا واتحاداتنا ونقاباتنا ومنظماتنا الثقافية والادبية، ما الذي جنيناه من مئات الآلاف من المخرجين في جامعاتنا؟ حريٌّ بمؤسساتنا تلك، أن تسأل الاسئلة الجوهرية والعميقة هذه.
أمس، وفي موقع الناقد العراقي الالكتروني نشرت الكاتبة والمترجمة السيدة مي مظفر قصيدة بمناسبة الذكرى السابعة لرحيل(زوجها) الفنان الكبير رافع الناصري، وكان الموقع قد اختار صورةً، كانت غاية في الجمال، فقد بدت فيها (مي) جالسةً على كرسيها، فيما وضع رافع ذقنه على رأسها بحميمية طفل مطلقة، وقد أمسك كتفها بيده اليمنى، باسماً بتعابير البِشْر والهناءة ، كان رافع قد ارتدى ثوباً أسودَ، كرافيتياً بنصف كم، وفي حنو قلما نشاهده في معارض اللوحات، الى ذلك كانت قصيدة مي عنه رقيقة، انسابت كلماتها مع الخطى التي كانا يقطعانها معاً فهي تقول: (لاحقتني عيناك تومِئان الى الطريق: من هنا بيتُنا.. أو ذاك الذي كان وقد عبرتُ المنعطفَ عيناي تخترقان المسافة، لا أراكَ .. ولن ترى قطُ ما أرى) .صورة جميلة أخرى لمي رافقت القصيدة ، بدت فيها فاتنةً جداً، وبنظرة خالصة للجمال، تحيل مُشاهدَها الى عالم مخمل، عذب وباذخ، ما كان ليقوم لولا الكتاب والقصيدة والرواية واللوحة والقطعة الموسيقية، لولا الانسان الذي لم يعد اليوم .
في كل مجتمع متمدن، يكون الفنان والشاعر والاديب والمثقف بعامة مثالاً حياتياً، يتوق المواطنون فيه الى تمثل حياته، ونهج سلوكه، ليقين الجميع بأنه الوحيد القادر على فهم الحياة وجعلها ممكنة، إلا في مجتماعتنا العربية فرجل الدين وشيخ العشيرة هما المثال. يا للبؤس.