اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > باليت المدى: التمثال الذي يراقبني

باليت المدى: التمثال الذي يراقبني

نشر في: 15 ديسمبر, 2018: 05:58 م

 ستار كاووش

أحب التجول في المدن الهولندية القديمة، لأشاهد بصمات الزمن وهي تتكيء على الأماكن والزوايا وتستقر فوق رؤوس التماثيل. أتطلع لوجوه الناس كما أراقبُ الجدران وأتناغمُ مع مقاهي الأرصفة. أتوقف أمام هذا المنعطف وألتفتُ الى تلك البيوت بطرازها القديم وسقوفها ذات القرميد الأحمر. أرتاد المتاحف وأتماهى مع الطبيعة التي يَنبَسِطُ لونها الأخضر على كل شيء. أحب ما حولي وأتفاعل معه بشكل إيجابي، وخلال السنوات العشرين التي عشتها في هولندا تنقلت في كل جوانب البلد، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، حتى الجزر الهولندية الخمس الصغيرة في بحر الشمال، كنت قد قضيتُ فيها أوقاتاً تكفي للتعرف علـى ملامحها وتفاصيلها.
ورغم كل ذلك، مازلتُ أتعثر كل مرة بتفاصيل جديدة لم أنتبه اليها سابقاً، وتفاجئني أشياء ربما تكون صغيرة، لكنها تلفت الأنتباه وتثير الفضول ولا تبارح المخيلة. ففي فترات متباعدة أثار انتباهي عدد من التماثيل بهيئة بورتريهات نصفية، ملونة ومتقاربة بالحجم، ومتماثلة بالشكل، بأفواهها المفتوحة وملامحها التي تبدو متكدرة، وكأنها من صنعِ شخص واحد، رغم وجودها في كل مناطق هولندا، ورغم ان الاختلاف الزمني بين بعضها يصل لأكثر من مئة سنة. فما حكاية هذه المنحوتات ولماذا وُزِّعَتْ أو استقرت في أماكن عديدة حتى خلتها تراقبني وترصد تحركاتي؟!
استهوتني لعبة هذه التماثيل التي غالَتْ بتطابقها، فصرتُ أتمعنها بقصدية وأدرك الأماكن الموجودة فيها، وأميز هيئتها الخارجية. لكن كيف إجتمع تشابه المنحوتة الموجودة في مدينة روتردام مع التي في مدينة ماستريخت، وكيف حدث هذا التقارب بين ما موجود منها في أمستردام مع الاخرى الموجودة في مقاطعة درينته؟ ومازاد من حيرتي أن ملامح الشخص في أغلب هذه التماثيل الملونة هي لشخص يبدو عربياً بلونه الأسمر وشاربه الأسود ولحيته الداكنة، وفوق كل هذا يضع على رأسه عمامة وكأنه أمير! فماذا يفعل هذا العربي وهو يبرز مرتفعاً فوق بعض البنايات الهولندية؟ انتبهت أكثر، فوجدته موجوداً فقط علـى واجهات البنايات التي تحتوي على صيدلية ذات طراز قديم، فقررتُ البحث لأعرف تفاصيل أكثر عن (صديقي) الجديد الذي أراه في كل مكان، وأقصد هذا التمثال الذي يداهمني هنا وهناك، لأتوصل الى أن الهولنديون يطلقون عليه تسمية (المتثائب) وهو يعتبر من الموروث الهولندي، ووجوده بمثابة إشارة الى وجود متجر للأدوية أو صيدلية ذات جودة عالية في ذات المبنى، وهيئة التمثال تساعد هنا في جذب الزبائن وارشادهم الى المكان. وكانت هذه الاشكال المنحوتة توضع قبل بضعة مئات من السنين على سطوح البنايات، لكن منذ بداية القرن السابع عشر بدأ بوضعها على الحيطان والواجهات لتكون متاحةً لرؤية الباحثين عن الدواء. وبالنسبة لفمه المفتوح فهو ليس للتثائب، بل إشارة الى تناول الدواء الذي يكون عادة مراً، فينعكس ذلك على ملامح التمثال الذي يبدو ممتعضاً.
كان الهولنديون في القرون الماضية يجوبون البحر بحثاً عن التوابل والأعشاب التي يستعملونها كأدوية، وكانوا يُحَمِّلونَ سفنهم من الشرق بالأقمشة والعطور ووصفات الأدوية والنباتات الجافة التي يستخدمونها أيضاً في التخدير. لذلك صنعوا هذا الشكل العربي للتمثال، كإشارة الى فعالية الطب الشرقي، وأصبح شكلاً من أشكال الفن الشعبي المتعارف عليه. رغم ان بعض التغييرات قد طالت شكل التمثال هنا وهناك مع مرور الزمن، كأن تراه يرتدي بدلة شرطي أو رجل اطفاء، أو حتى حارساً، لكن يبقى الشكل التقليدي هو الرجل الشرقي بسحنته السمراء المميزة.
البارحة كنت ذاهباً مع صديقي الرسام يان الى متجر بيع الألوان ومواد الرسم، فحدثته عن التمثال الذي أثار فضولي، فتوقَفَ وأجابني مازحاً وهو يفتح فمه مقلداً التمثال، تقصد المتثائب؟ إنه يشبهك. ثم أردَفَ قائلاً، هذا تقليد هولندي قديم. وبينما نحن نقترب من باب المتجر أكملَ ضاحكاً، أحبُ التقاليد الهولندية القديمة التي مازالت تعيش وتتنفس بيننا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

وزير الداخلية في الفلوجة للإشراف على نقل المسؤولية الأمنية من الدفاع

أسعار الصرف في بغداد.. سجلت ارتفاعا

إغلاق صالتين للقمار والقبض على ثلاثة متهمين في بغداد

التخطيط تعلن قرب إطلاق العمل بخطة التنمية 2024-2028

طقس العراق صحو مع ارتفاع بدرجات الحرارة خلال الأيام المقبلة

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram