جعفر خياط فاتني ان اذكر لكم في رسالتي السابقة انني بعد وصولي الى بغداد بيوم او يومين ذهبت لزيارة الباشا ، الذي كانت قد جلبت له معي كتاب توصية من شيخ الاسلام في تبريز ، وقد استقبلت بما يليق من المجاملة ، لكني يمكن ان اقول بالتأكيد انه ليس هناك شيء يمكن تصوره ليكون اقل تعبيرا عن فخامة المقام وابهته من مقام سموه، ولا اقل اعتبارا من خلقه ومظهره.
فقد كان الدخول الى مسكنه، الذي يصعب ان يسمى قصرا، على احقر ما يمكن ان يكون، وكان القائمون على خدمته يتناسبون مع المكان الذي يعملون فيه تناسبا تاما –اذ كان هناك عدد من الالبانيين الرثين في مظهرهم ، وقليل من الاتراك المنصرفين الى التدخين، وجماعة من الموظفين سيئي الهيئة والهندام، ولم يكن الشخص الذي ادخلنا للمثول بين يديه على حال احسن بكثير منهم. فقد وجدنا هناك رجلا بدينا يناهز الخمسين من عمره، عليه رداء من الفرو، وفي رأسه طربوش يجلس في جناح براني مؤثث تأثيثا اعتياديا، ومفتوح على الساحة بكليته. وكانت هناك على الارض سجادة لا باس بها ، وكان المسندو الافرشة التي جلسنا عليها مغطاة بقماش من الحرير القرمزي. وكان الباشا على ما ذكرت، رجلا بدينا فيه شيء كثير من سحنة التتر ولكن بشكل مقبول وقد تحدث الي كثيراً راداً على فارسيتي باللغة التركية، فكان حديثه على وجه العموم شائقا بالنسبة لمقام الباشوية الذي يشغله ، غير ان المجلس كان فيه عدد كبير من الاشخاص لايسمح للباشا بأن يفتح قلبه بحضورهم، كما كان من المؤمل ان يفعل لو كان لوحده، فقد كانت الغرفة ملأى بأناس كانوا يرتدون ملابس تركية وعربية وايرانية وكردية ولم يكن يخلو المجلس من المحدثين والمتكلمين ، ولما كانت الفائدة من مثل هذا التحدث قليلة نهضت بأقرب ما كانت تسمح به اللياقة والحشمة ، وبعد ان ترخصت من فخامته ذهبت لزيارة الكهية الذي كان يجلس في غرفة مظلمة تقع في ممر يبدو على درجة غير يسيرة من الكبة، وفي مثل هذه الدهاليز المظلمة من سرايات الامراء والباشوات تقترف حوادث القتل والاغتيال الكثيرة عادة، فان الضحية المسكينة التي يراد الاجهاز عليها ما ان يمر منها وهو خلي البال مما يهدد سلامته حتى يجد نفسه وقد لف شال حول عنقه من الخلف قبل ان يصرخ بكلمة "الله" او يخرج اليه من باب جانبية الباني جلواز فيفرغ النار من قربينته (بندقية صغيرة) في بطنه، او يطلق خرطوشة مسدس في دماغه، فينتهي أمره وسرعان ما يشاهد جذعه الخالي من الرأس معروضا في "الميدان" وقد حدث شيء من هذا القبيل قبل مدة قصيرة في هذا الممر بالذات، على ما روي لي، على اني اجتزته سالما والحمد لله فوجدت الكهية، الذي كان على رأس الجيش المنكسر.. جالسا في زاويته وبالقرب منه عقيد في الجيش النظامي.. وضابط من ضباط الخيالة الالبان، وعدد من أناس غير معروفين مسطرين في جوانب الغرفة الثلاثة وقد جاءوا يهنئونه على مآثره الاخيرة على ما احسب لانهم على ما يقولون قد قاموا باعمال باهرة برغم هزيمتهم المنكرة، فقد اقسم قائد المدفعية ايمانا مغلظة بأنه اطلق خمس مئة قذيفة من مدافعه، فقتلت كل قذيفة خمسة عشر رجلا من رجال العدو ، وهو لايذكر رقما اكبر من هذا لانه يود ان يبقى في ضمن الحدود المعقولة القابلة للتصديق! ومع كل هذا فقد اجبروا على التقهقر بطريقة من الطرق –انه يعترف بهذا على كل حال. وقد اكتفينا بزيارة قصيرة: اذ تناولنا القهوة ودخنا شطبا او شطبين –هذا ما فعلوه هم على الاقل –ثم عدت من السراي محفوفا بلفيف من خدام فخامته وهم يطالبونني ، وليس يرجونني بالهدايا مطالبة ملأى باللجاجة والالحاف، وهذا ازعاج ممجوج للغاية تشاهده هنا وفي استانبول لكنه اشد ازعاجا هنا فأن طجميع" الخدم الذين يقفون في خدمة أي رجل كبير تزوره هنا ينتظرون من الغريب ان يطعمهم او يقدم لهم هدية من الهدايا ، وقد اصبحت هذه العادة الممقوتة جزءاً من الوضع العام بحيث ان الخدم يعدون هذه الاكراميات قسما من اجورهم او رواتبهم ، ولذلك لايمكن لاي شخص ان يتفادى الاذعان لها، فكل فرد او مراجع لابد ان يستفيد من المراجعة فيدفع لهم تبعا للفائدة التي يحصل عليها.. اذ يدفع الموظفون والمستخدمون هذه "الرسوم" لخدام الرجل الكبير من اجل تكوين اصدقاء في الديوان، بينما يدفع لهم هم بدورهم من يروجون له اشغاله.. وهكذا اصبح هذا التعامل عادة شائعة بحيث ان المرء لايمكنه القيام حتى بزيارة اعتيادية بسيطة من دون ان يدفع شيئا للجميع. وقد اصبحت هذه في السراي عادة ممقوتة مزعجة للغاية، اذ يحدق الاتباع والخدام الذين لا حصر لهم بالمرء كاللصوص ، وينفذ الاجبار على الدفع الى حد قيام الجنود الذين يقفون للتحية بمد بنادقهم لقطع الطريق عليك حتى تدفع "الرسم" المطلوب ولا ادري اذا كان لابد لي ان اعود الى موضوع الباشا من جديد، على ان رسم صورة تقريبية لبغداد لايمكن ان يتم من دون تكريس عدد من جرات القلم لوصف سيدها الحالي، فقد سبق لي ان أتيت على وصف علي باشا ومظهره الخارجي.اما عقله فليس اكثر جاذبية من الوعاء الذي يحويه. فهو ضعيف الرأي، واهن العزيمة، متردد في العمل، فظ ، في قابلياته وشهواته، اناني جشع.. والمقول عنه انه غير ميال في طبيعته الى القسوة او الظلم.. ولكنه يكره از
قسم من رحلة قريزر الى بغداد
نشر في: 25 إبريل, 2010: 05:21 م