صفاء الحيدري* اعتدت ايام الصيف من كل عام ان اقيم في كابينة (جرداغ) في وسط نهر دجلة ببغداد وفي ناحية الكرادة بالذات مقابل شارع (ابو اقلام)، حيث كانت هناك شبه جزيرة تمتد الى وسط النهر امتلأت بالاشجار الورفة التي كانت محط انظار سكان الكرادة لما تتمتع به من مناظر خلابة وجو جمال بارد في صيف بغداد، يوم لم تكن هناك مبردات وايركونديشنات ووسائل تهوية حديثة.
وكنت اختار البقعة بحيث تكون منعزلة عن بقية الجراديغ التي تكتظ في تلك المواسم بالناس. اذ يقصدونها ليقضوا عليها اوقاتا سعيدة بين سباحة ورياضة واستمتاع. وكنت اقضى هناك اكثر من ثلاثة اشهر، ولا انزع جرداغي الا بعد ان يهطل المطر فما كان في بغداد مكان يعادل هذا المكان جمالا وسحرا ولطف هواء..وانقطع عن الناس طوال هذه المدة الا من يزورني والا من اراهم عندما اخرج الى سوق الكرادة في محلة الخربندة او ارخيته لاتبضع حاجياتي للاسبوع من طعام وشراب.. وكان الاخر الشاعر خاشع الراوي يومئذ ملاحظا في مديرية الدعاية والنشر عندما يأتي احد الصحفيين العرب ويسأل عني يرشدونه الى مكاني في الجزرة ، فيأتون لاخذ حديث منياو مجموعة اشعار فينسون وسط هذا المكان الساحر بين منظر السماء الساحرن والنهر الرقراق المتلألئ بالنجوم واكلة السمك المسكوف (مسكوف) ينسون الحديث والشعر الذين جاءوا بصددهما ، فنضرب وعدا لليوم الاخر. كما حدث لي مع مدير محطة الشرق الادنى يومذاك الاستاذ المرحوم (نمر ابو شهاب) الذي اصبح زائرا مقيما وكما حدث مع مذيع باريس الفرنسية ومدير محطة صوت امريكا في بغداد والذي كانت له دائرة كبيرة في الباب الشرقي قرب مديرية الزراعة العامة لتسجيل الاحاديث والاشعار العامة لتسجيل الاحاديث والاشعار.هكذا انطلقت صيف عام 1958 بزورقي من الباب الشرقي بعد ان حملته بكل الاخشاب والحصران (البواري) الضرورية لبناء الجرداغ، وانطلقت وحدي ظهيرة احد الايام قاصدا الجزرة تاركا الماء يحمل الزورق الى حيث اريد بفضل التيار القوي لنهر دجلة.وصلت الى اول اطراف الجزرة الخالية الا من جرداغين ، فحططت رحالي وبدأت بنقل اخشابي وحصراني وحدي تمهيدا لبناء الجرداغ الذي اعتدت ان اقوم به وحدي دون اية مساعدة من احد لطول ممارستي لهذا العمل خاصة عندما كانت تقتضي الظروف نقل الجرداغ من مكان الى اخر بسبب ارتفاع الماء.. او التهامه لاطراف الجزيرة المرتفعة وسقوط الكتل الرملية الى النهر بدوي هائل كنا نسميه (الهدام) خاصة في الاماكن التي تكون ارض الجزيرة فيها مرتفعة عن الماء باكثر من متر. وحدث وانا جالس استريح ان لمحت شرطيا قادما نحوي فاستغربت واستمر الرجل يتقرب مني حتى دنا وسلم علي ورددت عليه التحية فسألني وهو يشير نحو الاخشاب والبواري ما هذا؟ فقلت:انصب جرداغا..فقال:ممنوع، قلت:ولماذا؟قال: لاننا مقابل قصر نوري باشا، فاشرت الى الجرداغين وقلت: وما هذان الجردغان؟ قال: انهما لصباح بك ابن نوري؟ باشا: قلت: وهل هو الذي اعطى لك هذا الامر وارسلك؟ قال: لافحياني الشرطي واستدار وذهب، ولم يعد ابدا.. فبنيت الجرداغ واحطته بسياج كبير يضم الف متر مربع وارسلت بطلب السرير والكراسي واكتمل العمل خلال يوم واحد فجلست ذلك المساء على جرف الماء مقابل قصر نوري السعيد، ولم يخطر لي على بال قط بأنني من ذلك المكان ساشاهد بعد ايام المنظر الاخير من مسرحية حياته والمشهد النهائي لحياة العائلة الملكية الهاشمية في العراق، مع اخر فصل من فصول الملكية في العراق. ففي ذات يوم قبيل طلوع الفجر افقت على صوت هدير بعيد صادر من جسر مود (الاحرار) وكنت ساعتئذ نائما في العراء بين الجرداغ وبين الشاطئ ، على سرير حديدي ذي عارضتين عند الرأس والقدمين تحمياني من أي شيء. وكان الصوت الذي سمعته بزداد ويتعالى، فأتضح لي انه هدير دبابات.. وكان لدي ضيف هو (ن) ابن شقيقتي فنظرت اليه فاذا به مازال نائما، وكان الهدير يمضي متصلاً ولكنه ينقطع عندما يصل اليابسة حيث تمثال الملك فيصل الاول في الصالحية قرب دار الاذاعة.. بينما ينتصب تمثال اخر غير بعيد امام السفارة البريطانية ذات المسافة الكبيرة للجنرال (مود) كان الهدير متواصلا كما قلت ولم يكن الفجر قد طلع لكي اتبين الامر، ولكني تذكرت انه اليوم الذي سيعبر به الجيش الى الاردن فاطمأن خاطري، وسكنت هواجسي ولكن حدث ان مزق سكون الفجر صوت طلقات متتاليات لرشاشات قريبة مني جدا، بل واكثر قربا مما اتصور فهي تصدر من قمة قصر نوري السعيد بالذات وبكثافة كبيرة. وبدأ الفجر وبدأت خيوطه تنتشر وبدأت جيوش الظلام تندحر شيئا فشيئا ، فاذا بي ارى قصر نوري السعيد يصلي ما حواليه من رشاشات السطح بشكل لاهوادة فيه فاستغربت اشد الاستغراب.وبعد طلوع النهار وازدحام الناس ووقوفهم بمحاذاة سياج القصر الجانبي والذي تفصل بينه وبين القصر مساحة ارض خالية الا من بعض اشجار النخيل القليلة لاتزيد على الفي متر مربع اثار انتباهي وظل الامر مستغفلا علي لان كل شيء كان يخطر على البال في ذلك الوقت الا حدوث ما حدث. ولم تمض دقائق معدودات حتى كان الرصاص المتبادل يئز فوق رؤوسنا ، وبدأت حركة غير اعتيادية لجنود وراء النخيل. يحاولون التقدم بحماية النخلات الموجودات على الشاطئ، ولكن عبثا لان النار التي كانت تنطلق من السطح كانت تمنع كل حركة لهؤلاء الجنود. وبدأت حركة غير اعتيادية
كيف هرب نوري السعيد أمامي في تموز 1958؟
نشر في: 25 إبريل, 2010: 05:24 م