TOP

جريدة المدى > تحقيقات > الوركاء.. كنز حضارة وأرشيف إنساني وسط الخراب والإهمال

الوركاء.. كنز حضارة وأرشيف إنساني وسط الخراب والإهمال

نشر في: 10 نوفمبر, 2012: 08:00 م

ظلمت نفسي... وجلبت لها العذاب عندما شرعت في كتابة صفحة (هذا وطني)، لأني تعرفت عن كثب إلى مأساة بلد يحسده العالم على ما فيه من ثروات وحضارات ورموز وكنوز، لكنه يعيش الآن بذيل القائمة العالمية في كل شيء، لا لشيء إلا لكون من يقودونه غير آبهين بمصيره، ولا يعرفون قيمة الوطن ولا تفقه ضمائرهم مشاعر العشق تجاه هذه الأرض التي علمت الإنسانية جمعاء الكتابة والقوانين وعلى أرضها كان أول نص أدبي عرفه الإنسان ألا وهي ملحمة كلكامش، والأسباب كون اغلبهم يقطنون خارج البلد هم وعوائلهم، وحتى جنسياتهم  وجوازاتهم مزدوجة وضمائرهم كما أظن.
أول مسرح في العالم
تحدثنا في حلقة سابقة عن الوركاء الحالية أكثر مما تحدثنا عن وركاء كلكامش القديمة، وقد رافقنا بتلك الجولة ملازم أول صادق الحسناوي آمر حماية آثار الوركاء ويعمل كذلك مرشدا سياحيا، الذي بين بأننا داخل المدينة ونقترب الآن من زقورة كلكامش وهي على بعد أمتار من البيت الذي شيده الألمان والانكليز وقد بدأ به العمل سنة  1849م، مع وصول أول بعثة انكليزية إلى العراق، ومن هذا المكان كما يقول الحسناوي انطلق أول حرف بالتاريخ لتتعلم البشرية الكتابة، وفي هذه الزقورة التقت الحضارة مع البداوة حيث كان يمثل الحضارة فيها جلجامش، وفي هذا المكان أسس أول برلمان في العالم، وكذلك أسس أول مسرح في العالم، على عكس من يقول إن أول مسرح هو المسرح الروماني لان المسارح السومرية والبابلية أقدم منه بفترات طويلة بحسب قول المرشد والمسرح السومري ما زال شاخصا قرب الزقورة، وسكن في الوركاء السلوقيون والحوثيون وغيرهم، وقد مرت المدينة بـ(18)حضارة، وهذا هو البيت الألماني الذي تم بناؤه من قبل الألمان عام 1938 ميلادي وكان في البداية عبارة عن دار مشتركة بين الانكليز والألمان.
شباب أوروك في لبنان
وهو يشير إلى الزقورة قال إن أول حضارة في العالم انطلقت من هناك، وكلكامش حين طلب الخلود ليس من اجل البقاء لكنه طلب الخلود من خلال أعماله التي قام بها وبقي خالدا، واستخدم التدوين بالكتابة في العهد السلوقي، حيث دونت أسماء المدن والملوك والآلهة، ومن هذا المكان جند الملك كلكامش العديد من شباب أوروك وخاصة غير المتزوجين وكلفهم بالذهاب إلى لبنان لجلب الخشب من شجر أرزها ليستخدمه في سقوف مدينته. العديد من خبراء التربة الذين زاروا المدينة واطلعوا على عمرانها كما يقول الحسناوي يقولون بان ذلك الخشب استخدم لغرض تقوية البناء والمحافظة عليه من الرطوبة، والمنقبون وبالتحديد الألمان نقبوا إلى أساس آخر حضارة موجودة، وتعد مدينة الوركاء من المدن الضاربة بالقدم ويرجع تأسيسها الى عهد أول سكن للبشرية أي في الألف الخامس قبل الميلاد، ثم تعاظمت شهرتها في الألف الرابع قبل الميلاد وكانت في ذلك الوقت من أجمل المدن السومرية كما يقول المرشد، لاسيما وأنها من المراكز الدينية المهمة، واستمرت الحياة والسكن فيها حتى صدر الإسلام، وتعد الوركاء من المدن المدورة الواسعة حيث يبلغ محيطها 9كم2، والمدينة مؤسسة من الطين والحصر والخشب، وأقيمت فيها كما أسلفنا 18 حضارة، وفيها من الحضارات فضلا عما ذكرنا حضارة الكيشيون.
غادرها شط العطشان
لقد تعاقب على حكم الوركاء الاكديون والبابليون والكلدانيون وخلفوا آثارا حضارية خالدة حتى الآن واستمر السكن في الوركاء حتى صدر الإسلام بعد أن تحول نهر الفرات عنها لمسافة 12 كم غربا وتتألف بقايا اليوم من تلول ومرتفعات تبلغ مساحتها حوالي 7كم2. وقد ذكرها الطبري وياقوت الحموي وغيرهما، واسمها الحالي هو تحريف لاسمها السومري أوروك، ويحيط بها سور طوله 9.5كم وتبدو بقاياه تلولاً متفرقة تحيط بالمدينة وتعطيها شكلا بيضويا. يرجع تاريخ بناء الدور إلى حوالي الألف الثالث قبل الميلاد، وهو مشيد من اللبن المحدب، وتشير المصادر التاريخية إلى أن المنطقة التي تمتد فيها منطقة الدراسة حاليا قد نشأت فيها قبل الإسلام مدينة اسمها أليس وهي عبارة عن محطة استراحة للجيوش العربية ومقر تجمع المقاتلين من أبناء القبائل العربية التي حاربت الفرس وقاومت نفوذهم إذ شهدت أرضها معركة شرسة بين العرب والفرس. وتشير الوثائق العثمانية إلى أن المنطقة كانت عبارة عن قرية زراعية تقع على شط العطشان وهو نهر الفرات الأصلي الذي تحول عنها في عام 1700م إلى مجراه الحالي اثر فيضان كبير غمر المنطقة.
مدينة مقدسة
في عام 1758 مر بها الطبيب البريطاني الرحالة ايفز وجماعته في طريقهم من البصرة إلى الحلة، فمر بنهر الكريم الحالي وكان المجرى الأساس الجنوبي للفرات حينذاك فوجدها بلدة مسورة بيوتها من طين وفي عام 1765م مر بها الرحالة الألماني نيبور وهو في طريقه من البصرة إلى النجف فبغداد وأشار الى انها مدينة مبنية من الطين، وفي باديتها ملح كثير، وفي عام 1937 كان زحف المدينة وتوسعها العمراني قد خلف أمرا كانت نتيجته إزالة السور الذي يحيط بالمنطقة وهو يحيط ببيوتها والمبني من الطين والذي كان يحميها من غارات الغزاة والوهابيين، وتزدهر المنطقة بالمواقع الأثرية التي يصل عدها إلى 33 موقعا اثريا يمتد بين فترة 3200 ق.م إلى العصور الإسلامية الحديثة. لقد كانت مدينة أوروك من المدن المقدسة لأنها كانت مقر عبادة اله السماء آنو والآلهة انانا ملكة السماء وحامية المدينة وقد ورد اسم مدينة الوركاء في التوراة باسم ايرخ.
نشوء وتطور الزراعة
وفي الوركاء تميزت الحضارة بنضجها وتقدم الحياة الاجتماعية والدينية والاقتصادية وانتشار استعمال المعادن وصنع الأواني الفخارية، وتطورت القرى الكبيرة فصارت نواة لظهور دولة وظهور الحياة الحضارية المدنية، إذ أن بيئة الإنسان تطورت واختلفت حسب الأدوار التي مرت بها منذ أن كان يعيش عيشة انفرادية الى تكون المجتمع الإنساني، وكان نتيجة تطور وانتقال الإنسان من بيئة إلى أخرى تطور في معرفته الجغرافية إذ أن تلك البيئة متمثلة في المراكز الحضارية القديمة في العراق والتي تمثل منطقة الدراسة والتي امتازت بأنها بيئة تقوم على أساس استغلال الموارد الطبيعية المتوفرة والمتمثلة في وجود الأنهار والتربة الجيدة، والتي كانت أساسا لقيام الزراعة إذ كان الإنسان يبحث عن إيجاد الوسائل التي تمكنه من السيطرة على الموارد الطبيعية مثل السيطرة على الفيضان، واستغلال التربة والأمطار وأشعة الشمس في الإنتاج بعد أن عرف مواسم الفيضان ومواسم هبوب الرياح ورصد سقوط الأمطار والفصول، التي ساعدت على نشوء وتطور الزراعة، اذ يعتبر جنوب العراق الموطن الأصلي لشجرة النخيل، وقد كانت الهيئة المحلية في سهل العراق عاملا مهما في قيام المستوطنات القديمة في منطقة الدراسة إذ كان توفر الطين الذي استخدم في البناء والصناعات الفخارية عاملاً مساعدا في بناء المستوطنات البشرية، وقد كان تجمع السكان في الجنوب في المدن ضرورة أملاها وجود الأنهار حيث أن السيطرة على الأنهار والإفادة منها بشكل فاعل يستوجب التعاون على نطاق أوسع وكانت المجاميع السكانية تمتهن الزراعة وتربية الحيوانات وتدجينها كالبط والوز..  وكانت كثير من الأطعمة  تحفظ ويمارسون تجفيف البقوليات في الشمس وحفظ الفواكه بشكل صالح للأكل، وكذلك تجفيف الأسماك واللحوم.
طه باقر والحارس مهر
المرحومان طه باقر وبهنام أبو الصوف أوصيا كما يقول المرشد السياحي من يروم الذهاب إلى مدينة الوركاء عليه أن يمر بحارسها مهر فهو يعرف المدينة وخبر أسرارها منذ سنين طويلة بعد أن سكنها حارسا شابا وتزوج فيها وأنجب أولادا وأحفادا وأحيل على التقاعد ليورث مهنته احد أولاده.
الحارس مهر الذي أخذت سحنته لون البادية ورث من جلجامش الإرادة القوية والصبر والتحدي في العيش بظل ظروف قاهرة وبين قبور وآثار قديمة من دون كهرباء أو ماء، وشابه كلكامش أيضا حتى في عشقه للنساء لكونه متزوجا بأكثر من امرأة وهو وأبناؤه وأحفاده يصلون إلى ستين فردا وكما يقول هو "أنا لوحدي عشيرة".
يقول الحارس (مهر أرحيم) عملت كمنقب مع البعثة الألمانية في ستينيات القرن الماضي ولم أتعين كحارس على الملاك إلا في عام 1975، وعن كيفية وصول أولاده للمدارس في ظل غياب وسائط النقل، أكد انه يرفض ذهاب البنات للمدارس وإنما الأولاد فقط لصعوبة وصولهن، فقلت له ممازحا "وهل يقبل كلكامش بذلك؟" فرد علي بابتسامة "طبعا لا يقبل".
وكانت عندنا مدرسة قريبة من المنطقة فقام مدير تربية الخضر بنقلها عند قرية أبو ريشة في قضاء الخضر.
طريقة الدفن السومري
وعن الشخصيات التي زارت المنطقة في إحدى الاحتفاليات، واضح بالقول: زار المدينة أكثر من 160  بروفسورا وخبيرا منهم البروفسور هنز وهم من القلائل في العالم، وقمنا بنصب المضايف لهم ونحر الذبائح، ولكنهم كما يقول مهر وهو يبتسم  يفضلون التبولة والحمص بطحينة والهمبركر، وهو يتحدث سار باتجاه البيت الذي كان يسكنه فريق التنقيب الألماني، دخلنا البيت الذي بني من الطين وشيد وكأنه موقع اثري، أشار مهر إلى غرفة المدير، المطبخ ، المكتبة، غرفة الكهرباء، حيث توجد فيها ثلاجات نفطية لعدم وجود الكهرباء في المنطقة الأثرية، العديد من الآثار التي كانت موجودة في البيت الألماني نقلت إلى متحف السماوة كما يقول مهر، ولدينا العديد من الآثار التالفة فهذا عبارة عن حيوان متآكل، وهذه جثة فتاة سومرية عمرها 13 عاماً دفن معها فك الخنزير كتعويذة، وتم تحديد عمرها من قبل فريق طبي ألماني بالاعتماد على ما تبقى من أسنانها، دفنت الفتاة داخل قبر دائري وهي بوضع الجلوس وضم الركبتين إلى الصدر لان السومريين يدفنون موتاهم بوضعية وجود المولود في بيت الرحم وهو وضع القرفصاء، وهذا دليل على التفوق العلمي والطبي عند السومريين في ذلك الوقت  كما يقول مهر، وجثة الفتاة السومرية التي اكتشفت عام 1989 حاول الألمان أخذها معهم  لكننا رفضنا ذلك.
الابن كمر وطقوس العبادة
وعن آثار تواجد مهر وعائلته وسكنهم بين آثار وقبور أقدم مملكة في العالم، يقول مهر: "مرات عدة وخاصة في الليل اسمع أصواتا تناديني  مهر......مهر......مهر واخرج مع بندقيتي ولكن لا أجد أحدا وتعودت حقيقة على هذا الموضوع، وعن تأثيره في العائلة يقول إحدى بناتي أصابها الجنون وولدي الكبير كمر يمارس طقوس العبادة السومرية خفية، فهو يشعل النار ويحاكي السماء وكأنه ينظر إلى الآلهة وأحيانا يصعد على الزقورة ويتحدث بلغة لم نفهمها وهذه ضريبة السكن في هذه المنطقة كما يقول كمر، كنت انظر إلى رأس الفتاة وما تبقى من هيكلها العظمي، إلى فك الخنزير، الى ركام من الآثار المهمة  ملقاة على الأرض في غرفة طينية، إلى زقورة الوركاء وطبقات البناء، إلى مسارح المدينة، إلى معابدها ، إلى كل شيء فيها أشم منه عطر كلكامش وعبق حضارة ورقي معرفة، اصرخ بعويل عروسة فقدت عريسها في ليلة الزفاف ولكن بصمت على واقع خرب في كل شيء، مرددا ما قاله السياب ولكن بتحوير يليق بما أرى"الشمس أقبح في بلادي من سواها... حتى الظلام هناك أقبح........ فهو يحتضن الخراب" نعم الخراب أو العراق فكلاهما يرتديان ذات الزي ويتشحان بوشاح النكبة ويتعطران برائحة المأساة.

 والى حكاية أخرى من حكايات هذا وطني

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حملة حصر السلاح في العراق: هل تكفي المبادرات الحكومية لفرض سيادة الدولة؟
تحقيقات

حملة حصر السلاح في العراق: هل تكفي المبادرات الحكومية لفرض سيادة الدولة؟

 المدى/تبارك المجيد كانت الساعة تقترب من السابعة مساءً، والظلام قد بدأ يغطي المكان، تجمعنا نحن المتظاهرين عند الجامع المقابل لمدينة الجملة العصبية، وكانت الأجواء مشحونة بالتوتر، فجأة، بدأت أصوات الرصاص تعلو في الأفق،...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram