TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: بشيراز: بين سعدي وحافظ

قناطر: بشيراز: بين سعدي وحافظ

نشر في: 22 ديسمبر, 2018: 09:22 م

 طالب عبد العزيز

يبدو أن التكنولوجيا باتت تنهك سكان الأرض، وأنَّ الناس في القارات السبع ماضون الى التعالق مع كل ما هو مصنوع وفولاذي، في سعي حثيث للحاق بما تنتجه أيديهم، غير مبالين بما يدور حولهم، من مُثل وقيم، خلقتها وأسست لها الفطرة الأولى، أو الطبيعية. الطبيعة، هذه العلامة الفارقة في حياة شعوب الارض، آه، لو أننا ما زلنا نحتفظ، في ألواحنا لصورة أول نبتة تفتق عنها جيبُ الارض.
من يتصفح تاريخ بلاد سومر وآشور ونينوى يجد أنَّ الأرض والنهر والمطر والنخلة والقمح والفاكهة مفردات تؤثث الحياة والنصوص الشعرية والتاريخية معاً، ولا تنفرد ممالك بلاد الرافدين بذلك، إنما نجدها في رقم وألواح ممالك النيل وفارس وأثينا وروما وغيرها، ولأنني، عدت من زيارة ضريح الشيرازيين، حافظ وسعدي، أمس، الذي صادف أنَّ إيران كلها تحتفل بعيد بدا غريبا لي هو عيد (شب يلدا) أو عيد أطول ليلة في الشتاء، بحسب الأسطورة الفارسية، الليلة التي يسقط الثلج كثيراً فيها وتهب الريح الباردة فيها ويسقط فيها النارنج أيضاً، فقد هالني مشهد سكان مدينة شيراز، عاصمة البلاد الفارسية، وهم يملأون أكياسهم بالبطيخ الأحمر والرمان والنارنج والفستق وأنواع الخضار الأخرى بشكل يوحي ويؤسس للعلاقة الأزلية بين الانسان وما تنتجه الطبيعة من حوله، في الوهاد البعيدة، وقد ضيقت من فسحتها الجبال التي تحيط.
في حديقة ضريح الشاعر الفارسي حافظ شيرازي، كان البستانيون يقلمون التوت، وكنت رأيت أقرانهم في طهران وأصفهان أيضاً، فهم في كانون الثاني، والبرد يخطون وئيداً، نازلاً من الجبال، وقد تجرد الشجر عن اوراقه منذ اسبوعين وأكثر، ونحتت الريح العاتية اغصانه، فهي بلا ورق تلوذ به، ومن الجسور يطل السائقون على اسيجة المنازل، كل وجهة نظر عن الطبيعة بدت قاتمةً، لم أر المدن الجبلية عارية مثلما رأيتها في مثل الايام هذه، الله أشهد أنَّ عملية تقليم الاشجار في المدن تلك واحدة من أكثر الأعمال مشقةً، إذ، كيف سيتسنى لعمال دائرة الزراعة في بلدية المدن هذه تقليم الملايين من أغصان التوت والتين والرمان والبرتقال والنارنج ووو . كل لحظة للجمال فارسية بامتياز. نحن نغادر طهران منذ امس، والطريق الى شيراز لن تمر بالجبال ثانيةً، وحده الحور يبهج باغصانه الجُّردِ المسافات.
لستُ صفوياً، فارسياً مثلما قد يظنني البعض، بل لستُ من المقدَّس بشيء، لكي اسمّي الطريق الى هناك معصومةً، وما كان لسائق للحافلة أنْ يسلك الطريق الى القبّة الصفراء البعيدة، كانت لنا وجهتنا الأخرى، هي شيرازُ التي رافقني قمرها اللاهب، مدينة ستظل بمنأى عن الملح والعاقول، ذاك، التي أطلعتني نافذة القطار عليه بقم، بين الجبل والبر الأبيض الطويل ... وسوى الفخار الخزف، الذي في واجهة المطعم لم أر ما يدعوني لمد يدي أو التطاول ببصري، كذلك كان المسافرون، دخلوا المطعم، تقاذفتهم المقاعد وفناجين القهوة وعلب الحلوى ودورات المياه. هناك، على الطريق، كانت مدينة أخرى، مفردة، هي قبة بين البريّة والجبل، لا تمسكها الطريق الى شيراز، التي أقصدها الآن.
تقول نشرة الضوء التي في الحافلة إن درجة الحرارة في الخارج أدنى من الصفر بقليل، فرش معاونُ السائق للطفل من قفطانه منامةً، بضجر أمّه تدثر الطفل وبالمصابيح البعيدة أيضاً ونام، كانت قضبانُ المقاعد باردة، حدَّ انني سمعت هدهدتها. في شيراز، ما كنت احسب انَّ للنارنج متحفاً لولا إنني سمعت إحداهن تقول لخليلها: نلتقي في ( موزه نازنج) سألت السائق عم معنى (موزه) قال هي المتحف. ومن سياج حديقة الشيرازي، الشاعر، الذي ربّْتهُ صيحات الصبّية، رأيتهم يتقاذفون النارنج، كان المساء برتقالياً، لكنه بطعم حامض ولاذع. يقول:" ألا إنما السعديُّ مشتاقُ أهلهِ.. تشوّقَ طيرٍ لم يطعهُ جناحُ.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

السيد محمد رضا السيستاني؛ الأكبر حظاً بزعامة مرجعية النجف

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram