طالب عبد العزيز
يبدو أن التكنولوجيا باتت تنهك سكان الأرض، وأنَّ الناس في القارات السبع ماضون الى التعالق مع كل ما هو مصنوع وفولاذي، في سعي حثيث للحاق بما تنتجه أيديهم، غير مبالين بما يدور حولهم، من مُثل وقيم، خلقتها وأسست لها الفطرة الأولى، أو الطبيعية. الطبيعة، هذه العلامة الفارقة في حياة شعوب الارض، آه، لو أننا ما زلنا نحتفظ، في ألواحنا لصورة أول نبتة تفتق عنها جيبُ الارض.
من يتصفح تاريخ بلاد سومر وآشور ونينوى يجد أنَّ الأرض والنهر والمطر والنخلة والقمح والفاكهة مفردات تؤثث الحياة والنصوص الشعرية والتاريخية معاً، ولا تنفرد ممالك بلاد الرافدين بذلك، إنما نجدها في رقم وألواح ممالك النيل وفارس وأثينا وروما وغيرها، ولأنني، عدت من زيارة ضريح الشيرازيين، حافظ وسعدي، أمس، الذي صادف أنَّ إيران كلها تحتفل بعيد بدا غريبا لي هو عيد (شب يلدا) أو عيد أطول ليلة في الشتاء، بحسب الأسطورة الفارسية، الليلة التي يسقط الثلج كثيراً فيها وتهب الريح الباردة فيها ويسقط فيها النارنج أيضاً، فقد هالني مشهد سكان مدينة شيراز، عاصمة البلاد الفارسية، وهم يملأون أكياسهم بالبطيخ الأحمر والرمان والنارنج والفستق وأنواع الخضار الأخرى بشكل يوحي ويؤسس للعلاقة الأزلية بين الانسان وما تنتجه الطبيعة من حوله، في الوهاد البعيدة، وقد ضيقت من فسحتها الجبال التي تحيط.
في حديقة ضريح الشاعر الفارسي حافظ شيرازي، كان البستانيون يقلمون التوت، وكنت رأيت أقرانهم في طهران وأصفهان أيضاً، فهم في كانون الثاني، والبرد يخطون وئيداً، نازلاً من الجبال، وقد تجرد الشجر عن اوراقه منذ اسبوعين وأكثر، ونحتت الريح العاتية اغصانه، فهي بلا ورق تلوذ به، ومن الجسور يطل السائقون على اسيجة المنازل، كل وجهة نظر عن الطبيعة بدت قاتمةً، لم أر المدن الجبلية عارية مثلما رأيتها في مثل الايام هذه، الله أشهد أنَّ عملية تقليم الاشجار في المدن تلك واحدة من أكثر الأعمال مشقةً، إذ، كيف سيتسنى لعمال دائرة الزراعة في بلدية المدن هذه تقليم الملايين من أغصان التوت والتين والرمان والبرتقال والنارنج ووو . كل لحظة للجمال فارسية بامتياز. نحن نغادر طهران منذ امس، والطريق الى شيراز لن تمر بالجبال ثانيةً، وحده الحور يبهج باغصانه الجُّردِ المسافات.
لستُ صفوياً، فارسياً مثلما قد يظنني البعض، بل لستُ من المقدَّس بشيء، لكي اسمّي الطريق الى هناك معصومةً، وما كان لسائق للحافلة أنْ يسلك الطريق الى القبّة الصفراء البعيدة، كانت لنا وجهتنا الأخرى، هي شيرازُ التي رافقني قمرها اللاهب، مدينة ستظل بمنأى عن الملح والعاقول، ذاك، التي أطلعتني نافذة القطار عليه بقم، بين الجبل والبر الأبيض الطويل ... وسوى الفخار الخزف، الذي في واجهة المطعم لم أر ما يدعوني لمد يدي أو التطاول ببصري، كذلك كان المسافرون، دخلوا المطعم، تقاذفتهم المقاعد وفناجين القهوة وعلب الحلوى ودورات المياه. هناك، على الطريق، كانت مدينة أخرى، مفردة، هي قبة بين البريّة والجبل، لا تمسكها الطريق الى شيراز، التي أقصدها الآن.
تقول نشرة الضوء التي في الحافلة إن درجة الحرارة في الخارج أدنى من الصفر بقليل، فرش معاونُ السائق للطفل من قفطانه منامةً، بضجر أمّه تدثر الطفل وبالمصابيح البعيدة أيضاً ونام، كانت قضبانُ المقاعد باردة، حدَّ انني سمعت هدهدتها. في شيراز، ما كنت احسب انَّ للنارنج متحفاً لولا إنني سمعت إحداهن تقول لخليلها: نلتقي في ( موزه نازنج) سألت السائق عم معنى (موزه) قال هي المتحف. ومن سياج حديقة الشيرازي، الشاعر، الذي ربّْتهُ صيحات الصبّية، رأيتهم يتقاذفون النارنج، كان المساء برتقالياً، لكنه بطعم حامض ولاذع. يقول:" ألا إنما السعديُّ مشتاقُ أهلهِ.. تشوّقَ طيرٍ لم يطعهُ جناحُ.