شاكر لعيبي
بعد (الدجاجة المُدجَّنة) التي تكلّمنا عنها في عمود سابق، نتكلم الآن عن (الحِصان الحَصين) وهو من الكلام الذي لعله صار، في السنوات الأخيرة، بعض الكلام اللعبيّ الطرفويّ الرائج على نطاق واسع، السهل. نحن نزعم أننا لسنا في هذا المقام. وإنما، مرة أخرى، في سياق "الشعريات" التي تتوالد من استخدامات معجم (لسان العرب). ونحن نقيم لهذه الشعريات اعتباراً بصفتها "طبيعة" داخلية لهذا اللسان، ناجمة عن توالد المعاني التي تُنسي المرءَ المعنى الأصليّ، أحياناً تماماً، وتُبقي على الاستخدام المجازيّ في نهاية المطاف، والشعريّ.
فلماذا تقع مفردة (الحِصان) تحت مادة (حَصَنَ)؟ ومن يتذكر الحِصْن الحربيّ عندما ينطق باسم الحيوان؟
المعنى الأصلي للفعل هو: حَصُنَ المكانُ يَحْصُنُ حَصانةً، فهو حَصِين: مَنُع، وأَحْصَنَه صاحبُه وحَصَّنه. والحِصْنُ: كلُّ موضع حَصِين لا يُوصَل إلى ما في جَوْفِه، والجمع حُصونٌ. وحِصْنٌ حَصِينٌ: من الحَصانة. وحَصَّنْتُ القرية إذا بنيتَ حولَها، وتَحَصَّنَ العَدُوُّ. وفي حديث الأَشعث "تَحَصَّنَ في مِحْصَنٍ"، المِحْصَنُ هو القصرُ والحِصْنُ. وتَحَصَّنَ إذا دخل الحِصْنَ واحْتَمى به. ودرْعٌ حَصِين وحَصِينة: مُحْكمَة.
من ذلك تنبثق على الفور دلالة جسدية أو جنسية: امرأَة حَصانٌ، بفتح الحاء أي عفيفة بَيِّنة الحَصانةِ والحُصْنِ ومتزوِّجَةٌ أَيضاً من نسوة حُصُنٍ وحَصاناتٍ، وحاصِنٌ من نِسْوَةٍ حَواصِنَ وحاصِنات، وقد حَصُنَت تَحْصُنُ حِصْناً وحُصْناً وحَصْناً إذا عَفَّتْ عن الرِّيبة، فهي حَصانٌ؛ أَنشد ابن بري: "الحُصْنُ أَدْنى، لو تآيَيْتِهِ - مِنْ حَثْيِكِ التُّرْبَ على الرَّاكِبِ". وحَصَّنَت المرأَةُ نفسَها وتَحَصَّنَتْ وأَحْصَنَها وحَصَّنها وأَحْصَنَت نفسها. وفي التنزيل "والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها". وأَنشد: "وحاصِن منْ حاصِنات مُلْسِ - مِنَ الأَذَى، ومن قِرافِ الوَقْسِ". فالمرأة الحَصان موصولة بوثاقة الحِصْن ومنعته، إذ لا يأتيه أحد بسهولة. ومثل ذلك اليوم الحصانة الدبلوماسية مثلاً، وكلّ حصانة مماثلة إنما هي من الحِصْن الحربيّ بالأصل.
ثم نأتي إلى الحيوان:
الحِصَانُ، بكسر الحاء، هو الفحلُ من الخيل، والجمع حُصُنٌ. فلماذا يقع الحيوان تحت الفعل نفسه؟ هذا ما يفسّره ابن جني: "قولهم فرَسٌ حِصانٌ بَيِّنُ التحصُّن هو مُشْتَقٌّ من الحَصانةِ لأَنه مُحْرِز لفارسه، كما قالوا في الأُنثى حِجْر، وهو من حَجَر عليه أَي منعه". وذهبوا بعيداً فقالوا تَحَصَّنَ الفَرسُ أي صارَ حِصاناً. وقال الأَزهري: "تَحَصَّنَ إذا تَكَلَّف ذلك، وخَيْلُ العرب حُصونها"، وهو يربط بشكل لا لبس فيه بين المعاني المختلفة. ثم أضاف: "وهُمْ إلى اليوم يُسَمُّونها حُصوناً ذُكورَها وإناثَها". وسئل بعض الحُكَّام عن رجلٍ جعل مالاً له في الحُصونِ فقال: اشْتَرُوا خَيْلاً واحْمِلوا عليها في سبيل الله؛ ذهب إلى قول الجعفي:
ولقد عَلِمْتُ على تَوَقِّي الرَّدَى - أَن الحُصونَ الخَيْلُ، لا مَدَرُ القُرى.
وقيل: سُمِّيَ الفرسُ حِصاناً لأَنه ضُنَّ بمائه فلم يُنْزَ إلا على كريمة، ثم كثُر ذلك حتى سَمَّوا كلَّ ذَكَر من الخيل حِصاناً [وهذا في يقني من الإفراط في التأويل ولكنه ممكن أيضاً]، والعرب تسمي السِّلاحَ كلَّه حِصْناً؛ وجعل ساعِدةُ الهذليّ النّصالَ أَحْصِنة فقال:
وأَحْصِنةٌ ثُجْرُ الظُّباتِ كأَنَّها - إذا لم يُغَيِّبْها الجفيرُ، جَحِيمُ.
ثم تطلع من الفعل (حَصَنَ) مجازات شتى: فالمِحْصَنُ هو القُفْلُ. والمِحْصَنُ أَيضاً المِكْتلةُ التي هي الزَّبيل، ولا يقال مِحْصَنة. والحِصْنُ هو الهِلالُ [وهذا يحتاج تأملاً]. وحُصَيْنٌ: موضع؛ والثعلبُ يُكْنى أَبا الحِصْنِ، وأَبو الحُصَيْن كنية الثعلب؛ وأَنشد ابن بري:
لله دَرُّ أَبي الحُصَيْنِ لقدْ بَدَتْ - منه مَكايِدُ حُوَّلِيٍّ قُلَّبِ.
ذلك لأنه جيد التحصّن (أو الحذر) في الغالب، فيشترك مع الحِصان بمزية واحدة.
لفظ الحِصان وأبي الحُصَيْنِ مقذوفات في شعرية أكيدة.