علي حسين
لن يكتب الشعراء من بعده مثل"غريب على الخليج".. ولن يعاتب عاشق وطَنَه بمثل ما عاتب السياب:
البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما تكون..
والبحر دونك يا عراق
لم يكن بدر يُدرك أنه سيحزن القرّاء لقصائده التي أرادها في بداية حياته مثل نبوءة مفزعة تؤذن بعصور الخراب، ومثلما نتأمل في مراراته وأحزانه وذكرياته، نتذكر تلك الجواهر من القصائد التي زيّن بها الشعر العربي، نتذكر ذلك الفتى النحيل الذي حطّ الرحال من البصرة، قاصداً دار المعلمين العالية ليلتقي بنازك الملائكة، ولميعة عباس عمارة وبلند الحيدري ومن بعدهم عبد الوهاب البياتي
الشاب الذي وقف أمام أستاذه محمد مهدي البصير جاء يحمل فقر الحال وغنى الأمنيات ليصوغ منهما صورة لوطن جديد، بوسع الآمال اسمه العراق، وحلم أن لا يعيش غريباً على الخليج.. وأن لا يصرخ سدى.. عِراقُ، عراقُ..ولا يردُّ سوى الصدى.
بدر كان مغرماً بما يكتب، يعتقد أن الفكر والشعر سيصنعان بلداً يكون ملكاً للجميع، و مجتمعاً آمناً لا تقيّد حركته خطب وشعارات ثورية، ولا يحرس استقراره ساسة يتربصون به كلّ ليلة... ديمقراطية، تنحاز للمواطن لا للطائفة، وتنحاز للبلاد لا للحزب والعشيرة.، عاش السياب أسير أحلامه، متنقلاً في الشعر والحب والمرض، لينتهي وحيدا يئن على بلاد تُنكر أبناءها لأنهم لا يمارسون الخديعة، ولا يحملون صور قادتها الجدد، ولا يهتفون لهم في الساحات.
مات السياب قبل أربعة وخمسين عاماً وفي عينيه عتاب، فالبصرة استبدلت ثوب الحياة برداء الحشمة والفضيلة الزائفة، وقد استولى عليها البعض ممن يفرضون كثيرا من الكآبة على الحياة معززين ثقافة الظلام، يبددون الأمل ويحاصرون التفاؤل، يأمرون الناس بالكف عن ممارسة الفرح الذي لم يعد مهنة العراقيين بعد أن سادت مهن جديدة مثل العصابات وأمراء الحرب الطائفية والسراق، وكل هؤلاء يتبارون في كيفية ذبح السعادة والفرح ووأدهما في مقبرة الظلام.
. بعد اكثر من نصف قرن على رحيل شاعرها نجد البصرة مشغولة بأسعد العيداني هل يبقى محافظاً أم يذهب ليجلس على كرسي البرلمان؟، فيما العراق يقف صامتا وهو يستمع الى تعليمات السفير الايراني يعلن ان لامكان لغيرنا في العراق.
رحل السياب ؛ غريباً، مريضا، لكنه يرفض ان ينسى ما مر بالعراق : ومنذ أنْ كنَّا صغاراً، كانت السماء
تغيمُ في الشتاء
ويهطل المطر
وكلَّ عام ـ حين يعشب الثرى ـ نجوعْ
ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ
مطر …
مطر …
مطر.