لطفية الدليمي
هل حلم الفقراء يوماً أن يخصص لهم المعماري عمارة تليق بإنسانيتهم؟ عمارة من مادة أرضهم وجِبْلَتها تتناغم مع البيئة والطبيعة من حولهم؟
نعم فقد بدأ البروفيسور حسن فتحي بتصميم مشروع قرية من الطين واللبن على ضفة النيل سنة 1947 وأنجز البناء في 1953 وكتب كتاباً عن مشروعه صدر في 1973بالانكليزية بعنوان ( عمارة الفقراء).
وتكمن في العنوان مفارقة غريبة لإقتران العمارة بالفقراء ؛ فالمتعارف عليه في مجتمعاتنا أنّ العمارة نشاط مقترن بالأرستقراطية المالية حصراً، وأن زبائن المعماري هم عادة من الأغنياء المتطلبين لتفاصيل معمارية باذخة تكون شاهدة على قدراتهم المالية التي قد لاتحمل في أغلب الأحوال رؤية فنية متقدمة.
يمثل البروفيسور المعماري حسن فتحي نموذجاً فريداً غير معهود بين أقرانه من المعماريين ؛ فهو أقرب إلى شخصية العرفاني الزاهد الذي لايأبه بالمال رغم أنّ شخصيته كانت تشي بأرستقراطية ثقافية ذات سمات محببة، وقد ترك الرجل بصمته في جيل كامل من المثقفين - معماريين وسواهم - ممّن باتوا يرون في العمارة وسيلة للإرتقاء بحياة السواد الأعظم من الناس وليس محض تحقيق نزوات مطلبية لبعض الأغنياء المتبطّرين .بعد أن نفذ حسن فتحي مشروع عمارة الطين ..
يكمن خلل النظرة الى العمارة عندنا في منظومة التعليم الجامعي التي تكرّس هرمية طبقية تعليمية تعمل بدورها على إشاعة أنماط من الأنساق الثقافية لاتستجيب لروح العصر ومتغيراته الثورية، وبحسب هذه الرؤية الهرمية تبدو الممارسة المعمارية محصورة في إطار أقلية من المحظوظين الذين ستجعل منهم العمارة كائنات تتسيّد الأعالي الوظيفية المهيمنة في المجتمع ، وربما ساهم في إشاعة هذا التصوّر كون أوائل المعماريين متحدّرين من عوائل ثرية ذات نفوذ مالي أو سياسي فاعل ؛ ولمّا كان شكل الثراء في بلداننا- التي لم يسعف أهلها ان يكونوا من المبتكرين ومطوري التقنيات الحديثة - يتمظهر بملكيات عقارية - أرضاً ومنشئات مشيّدة- سيكون من الطبيعي أن تقوم تلك العوائل بتوجيه أبنائها نحو دراسة العمارة وكلّ ماله علاقة بالتطوير العقاري لتعظيم الفائدة المجتناة من الملكيات العقارية وتحقيق أقصى العوائد منها ؛ بينما نجد أن العمارة الغربية تطوّرت في مسارات موازية لتطوّر الرؤية الثقافية التي تسعى لتحقيق الإرتقاء بالوضع البشري ضمن محيط المدن الحديثة ونعلم أنّ أعاظم المعماريين - الأوربيين بخاصة - إنّما كانوا من المثقفين الطلائعيين الذين شغلتهم هموم الإنسان ومكابداته.
قد تبدو المقاربة المعمارية التي إعتمدها الراحل ( حسن فتحي ) شكلاً من أشكال العمارة العضوية التي بشّر بها المعماري الأمريكي ( فرانك لويد رايت ) ؛ لكنّ الحقّ أنّ عمارة حسن فتحي لم تكن فلسفة معمارية بقدر ماكانت رغبة شغوفة بالتقرّب من الطبيعة وتوظيفها من أجل تحقيق رغبات الفقراء البسيطة ؛ فالعيش في مساكن مشيدة من طين الأرض بعد تشكيله وفقاً لرؤية جمالية وفلسفية فكرة تتناغم مع الروح الشعبية وتقاليدها وعاداتها.
تختلف عمارة حسن فتحي التي شيدها للفقراء عن علب السردين المكتظة بساكنيها في عمارات الاسمنت ؛ فهي بيوت طينية ذات قباب مندمجة بالبيئة لتشكل توليفة طبيعية وإنسانية تبعث الراحة في النفس والسمو في الأفكار، وقد راقت الفكرة لكثير من الاثرياء والفنانين فأنشأوا مساكن طينية لهم تحمل بصمات حسن فتحي في تناغمها مع الطبيعة ، بينما شن أصحاب مصانع الاسمنت والحديد حربا على المشروع طوال سنوات وتم إهماله وهدمت بعض مبانيه، وقرأت أخيرا أن هناك إجراءات لترميم القرية الطينية وإعادة الحياة الى مشروع حسن فتحي وتعميم عمارته.