TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البرج العاجي: كتب للتعمية لا للبصيرة

البرج العاجي: كتب للتعمية لا للبصيرة

نشر في: 30 ديسمبر, 2018: 06:33 م

 فوزي كريم

حركة النقد في الفكر والأدب تبدو لي الآن أنها كانت سليمة، من حيث تواصلها مع القارئ، في النصف الأول من القرن العشرين الغربي. أتذكر ترجمات كتب النقد التي صارت تصلنا في الستينيات كم كانت ملهمة. ضرورة تواصل النص مع القارئ تلاشت في الغرب منذ الخمسينيات، بعد شيوع تيارات "مابعد الحداثة". الموجة وصلتنا في الثمانينيات، فصارت كتب نقدها الفكرية والأدبية مُلهمة بصورة غير مسبوقة. العالم العربي دخل في أعتى مرحلة تعمية على كل مستويات حياته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية. مثقفو الجيل شدتهم الحاجة إلى تعمية ثقافية ملائمة، عثروا عليها بيسر في تيارات "مابعد الحداثة" النقدية الغربية المستجدّة. فصارت كتبها تُترجم بلا حساب، حتى لتبدو في عين غير العارفين وكأنها كتب النقد الفكري والأدبي الغربي الوحيدة. دور النشر تحرص على التعمية فيما تنشر، بدءاً من عنوان الكتاب.الظاهرة تذكّر بما كان يحدث، يوم هيمن فكر اليسار الماركسي، وأحزاب اليسار على الحياة الثقافية. دور النشر آنذاك لم تكن تشجع على الترجمة إلا ضمن هذا الحقل. حتى خيل إلينا أن النقد الفكري والأدبي الغربي يساري بجملته. تعتيم جعلنا على جهل مطبق بمفكري وأدباء التيارات الأعم. حتى الوجودية لم تُقبل علينا بخفة طائر إلا حينا تزاوجت مع الماركسية. وكنا نجهل، وربما نتجاهل، أن كل هذا الغذاء الدسم إنما يتم في المطبخ الباريسي، وفي ملحقه الصغير الأمريكي. والمضحك إن الأجيال مازالت تجهل، وربما تتجاهل، أن "تيارات مابعد الحداثة" الفكرية والنقدية التي أعانتهم في "التعمية"، إنما تتم في مطبخ باريسي وأمريكي، لا يشكل إلا ركناً صغيراً من مطبخ الفكر العالمي.إنني على يقين من أن كتاباً فرنسيين، من أمثال "باشلار"، "فوكو"، "دريدا"، "رولان بارت"..الخ، لا بد أن تصرعهم الدهشة حين يعرفون أن العربية، من دون لغات الأرض، قد ترجمت أعمالهم كاملة، ولمرات عدة. وأن تعمية تمت باسمهم على معظم التيارات النقدية التي تملأ رحاب الغرب. وأن هذا الانصراف لهم وحدهم صار يأخذ طبيعة شبه "إيمانية" وعقائدية. حتى صار واحدهم يتصابى تحت ظلالهم، دون أن يفهم ما يرطنون به من إيهامات مُحلقة.العملية اعتمدت إذن، في المرحلتين، على تكريس الاهتمام لتوجه واحد في الفكر النقدي الغربي، وعلى التعتيم الثقافي الذي شمل الخارطة الأوسع. طبعاً، هناك ترجمات قيمة لكتب نقدية قيمة تنتسب للقرن العشرين، تخرج على حياء بين حين وآخر، وسرعان ما تنغمر في ظلام النسيان. إن أيسر التهم بحقها أنها ذات معنى، وأن معناها يصل القارئ بيسر. إنها تفتح البصيرة، وهذه أولى مخاطرها، في مرحلة سيادة "التعمية".بين يدي ترجمة رائعة لكتاب رائع: "مبادئ النقد الأدبي، مع ملحق لكتاب العلم والشعر" للانكليزي أ.أ رتشاردز. لم يرد ذكره، على حد متابعتي" إلا في لائحة إصدارات "المجلس الأعلى للثقافة". وإصدارات الأخيرة تحفل بأمهات الكتب في الفكر النقدي، لا يحفل بها أحد، ولا يتأثر بها أحد. وإذا وردت فبأطروحة جامعية، تشير في الهامش على شاهد عابر.لدي حفنة كبيرة من الكتب النقدية، موضوعة ومترجمة، الصادرة حديثاً، أستطيع أن أقول بشأنها "إنها كتب رطانة لا تُقرأ". أقلب صفحاتها وأقرأ فقرة هنا، وفقرة هناك دون أن أقبض على فكرة واضحة، أو تعبير مؤثر، على الأقل.
القراءة الثقافية لا تعني الإحالة إلى ما هو اجتماعي أو نفسي، وتعرية ما هو مضمر في الجملة الشعرية فقط، بقدر ما تعني أيضا جملة من الإحالات إلى الوجودي والرؤيوي والاستعاري بوصفها مجسات للاختراق، فضلا عن كونها لعبة الشاعر المضادة في استنطاق اللغة عبر البحث عن تمثيلاتها السيميائية في المكان/ المنفى والجسد، وعبر التماهي بشغف التعويض، حيث أنّ التماهي بين الشاعر والقصيدة هو من قبيل القناعة بأنّ الشعر يعوّض عن المشاركة في أي فعالية سياسية خارجية“.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جنرالات الطائفية

العمود الثامن: لماذا لا نثق بهم؟

الصراع على البحر الأحمر من بوابة اليمن "السعيد" 

كيف يمكنناالاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمود الثامن: رئيستهم ورئيسنا !!

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

 علي حسين أعرف جيداً أن البعض من الأعزاء يجدون في حديثي عمّا يجري في بلدان العالم نوعاً من البطر لا يهم المواطن المشغول باجتماعات الكتل السياسية التي دائما ما تطابنا بـ " رص...
علي حسين

قناطر: الربيع الأمريكي المُذِل

طالب عبد العزيز هل نحن بانتظار ربيع أمريكي قادم؟ على الرغم من كل ما حدث، وقد يحدث في الشرق الأوسط، نعم، وكم هو مؤسف أن تتحرك دفة التغيير بيد القبطان الأمريكي الحقير، وكم قبيح...
طالب عبد العزيز

تضارب المصالح بين إسرائيل وتركيا في سوريا وعواقبه

د. فالح الحمـــراني كما بات معروفاً، أن وزير الدفاع الإسرائيلي وبنيامين نتنياهو*، خلال لقاء حول موضوع الوجود التركي في سوريا، طرحا مقترحاً لـ"تقسيم سوريا إلى مناطق مقاطعات (الكانتونات)". وذكرت صحيفة إسرائيل هايوم عن خطة...
د. فالح الحمراني

النظام السياسي في العراق بين الخوف من التغيير وسؤال الشرعية

أحمد حسن لفهم حالة القلق التي تخيم على النخبة السياسية في العراق مع كل تغيير داخلي أو إقليمي، لا بد من تحليل عميق يرتكز على أسس واضحة ومنطقية. فالشرعية السياسية، التي تعد الركيزة الأساسية...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram