طالب عبد العزيز
يجد المدنيون، مع نخبة المثقفين ضالتهم في أروقة الثقافة، فهذا مجتمع يخلو من التكالب على المال، وهو مكان آمن من الشرور والمناكدة، يأتيه كل ذي صنعة في الكتابة والسماع والمعاينة، ويدخله الأنيقون من النساء والرجال، يهمسون مع بعضهم في شؤون البلاد والمدن وما آلت اليه أحوال الناس، محاولين ترميم ما تصدع، طوال عقود من الزمن العراقي الأغبر، كل حسب قدرته ورؤاه، وهم نفر قليل، لكن لديهم الإمكانية الكبيرة في صنع الحياة، مقابل ما يهدم هؤلاء، الذين استولوا على مفاصلها وشوهوا قدرتنا على استيعابها.
قد لا تصنع أمسيةٌ للشعر، يحضرها خمسين شخصاً معجزة، ولن تقوم قيامة البلاد داخل قاعة يعرض فيها فنان تشكيلي أعماله، ومثل هذه وتلك نقولها لما يحدث في المسرح واتحاد الأدباء ونقابة الفنانين وشارع المتنبي وغيرها من المنظمات الثقافية لكن، الأمكنة هذه هي الوحيدة القادرة على منحنا الثقة بمستقبل البلاد وحدها القادرة على جعل الحياة ممكنة، خالية من التشدد والارهاب والفساد.
ما حدث في ليلة الميلاد يأخذنا الى الجانب المضيء من الحياة، فقد خرجت الناس على اختلاف طوائفها وأديانها وتوجهاتها الفكرية، يوحدها الفرح والاحتفال بالسنة الجديدة لا غير، وما نشهده في حلقات الثقافة في بغداد والمدن العراقية لهو الأنموذج الأجمل لما حدث ليلة الميلاد. لدينا شعب يحب الفرح، وشباب يبحثون عن من يأخذ بأيديهم الى سبل النور، لكن الدولة غافلة تماماً عنهم، إن لم نقل إنها لا تريد الحياة لهم، بل وتجد في حياتهم نهايتها الأكيدة. هل يمكننا تصور الثقافة بوصفها مقبرة للموت؟ نعم .
منذ سنوات ونحن نراقب الذين يأتون المتنبي، فنجد أن الغالبية منهم ليسوا من منتجي الثقافة. إنما هم محبوها، وكل من نلنقيها، من النساء في شارع الفراهيدي، بالبصرة يتحدثن عن الأمان الذي يجدنه بين الأدباء والكتّاب والفنانين، فهن آمنات من التحرش والمضايقة، يبحثن عن الكتاب بالدرجة التي يبحثن فيها عن حياتهن، ومهما بالغنا في وصف ما نعاني منه نحن، فلن نجد لوصف ما هن فيه من رقي وجمال، هذا مجتمع مخمل، وهؤلاء ناس من طينة خاصة، صقلتهم الكتب وهذبت نفوسهم اللوحات والموسيقى، قد يكون هذا كلام فيه شيء من الغلو، وشيء من المديح إلا أن ما تشعر به المرأة بيننا، نحن معشر المثقفين مختلف تماماً عن ما تشعر به في السوق والبيت والدائرة.
ما نشاهده في حلقات السياسة والمال والاقتصاد والتجارة من قبح لا يمكن مشاهدته في أروقة الثقافة. المثقف بتعبير نصر حامد ابو زيد" ليس بكلب حراسة، هو حارس قيم" وفي عراقنا العشرات من حراس القيم، لكن، للأسف تستبعدهم الدولة العراقية، فهي تنفرد في رسم سياستها بعيداً عن هؤلاء، كيف نتحدث عن مدن جميلة وهي تعتقد بان المهندس البلدي وحده من يبني، كيف نرتقي بجامعاتنا وهي ترى المستقبل من نافذة ما يردها من كسالى وفاشلين ومتشددين دينياً ومذهبياً، كيف تكون الحياة جميلة والنائب في البرلمان يرينا متفاخراً أو زاهداً مدفنه في مقبرة النجف؟ بمثل هؤلاء لن نبني البلاد. المثقفون هم البناة بكل تأكيد.