طالب عبد العزيز
في المدن الاماراتية، دبي والشارقة وابو ظبي، التي نهضت بقوة في قطاعات الاقتصاد والمال والعمران خلال عقود قصيرة من الزمن حرص حكامها على تقديم بعضها بوصفها حاضنات ثقافية، حتى أن زائرها لا يبذل جهداً كبيراً لكي ينعم بلمسات الفن والجمال والأناقة في أي مكان يحط فيه، ويبدو للوهلة الأولى إن الحكومة عملت على ان تجعل من المدن قبلة للكتاب وصناعة الحرف، منافسة في ذلك العواصم العربية الشهيرة (بيروت والقاهرة وبغداد) فهي تستقطب المهرجانات والجوائز والفعاليات والانشطة الثقافية والفنية على مدار السنة.
من الطائرة، وقبل أن تحط بنا في مطار دبي، مساء أمس الأول، بدت المدينة كرنفال ضوء، يضفي البحر المحيط عليها لمسة من الجمال، الماء والضوء دالتان على المدن الخليجية. كنت أحصي آيات الجمال والاناقة على مضيفات الطائرة، اللواتي اعلمنا القبطان بانهن يتكلمن أكثر من عشر لغات، فالراكب لا يجد الحرج في طلب ما يريد، وبأي لغة كانت. أعلم جيداً انهن لم يشاهدن البصرة إلا من خلال النافذة وهي تحط، ولا يتصورن المدينة إلا عبر محيط المطار الرملي الحار، على العكس من المدن التي جئن منها، كم سيبدو لهن جميلاً لو انهن اخذن سيارة الاجرة لساعة او لساعتين، متجولات متبضعات!!
معيب على مدننا أن تكون طاردة للإنسان، كل الطيارين والمضيفات والطواقم الطائرين في اجوائنا يخشون من دخول بغداد والبصرة وغيرها من المدن، كل مديري وموظفي الشركات النفطية الاجنبية ورجال الاعمال الاجانب يخشون الدخول الى مدننا، هناك رعب خفي لا من التفجيرات وأعمال العنف، حسب، إنما من الانسان لدينا،الذي ما عاد يتقبل الآخر، المنطوق الديني والحائل الاجتماعي والقانون المعطل والسلوك اليومي والوحشي لدى البعض جعلنا في قائمة الشعوب التي ترفض الاخر. من يعش في دبي مثلاً لا يمكنه تصور طابع الحياة في العراق، والمرأة هي الأكثر تضرراً. نحن بحاجة الى من يعيد لنا الثقة بانساننا، هناك سلوك تجاوزه منطق الحياة.
وجود المراة السافرة بشعرها وببنطلونها الجينز وكعبها العالي وهي تمارس حياتها في السوق والشارع والمقهى والمطعم والنادي الليلي والحديقة العامة رسائل اطمئنان مجتمعية، ووجودها سجينة البيت أو في عيادة الطبيب رسائل رعب. الشارع النظيف والموظف حليق اللحية والثياب الانيقة والتعامل الحضاري في السيارة والمول والمدرسة لازمة حياتية في كل مكان إلا في العراق، الموظف عفيف اليد والشرطي الأمين والطبيب الحريص على حياة الانسان والاستاذ المخلص والمثقف الملتزم بهموم شعبه واشياء هي خاصة التحضر والمدنية مسجات غاية في الاهمية يتوجب تامينها لنهوض اي مجتمع. متى ما تمكنا من بث روح الانسانية، بعيدا عن التطرّف والتشدد والمنفعة الشخصية سيكون بامكاننا التساوق مع الاخرين الذي قطع الاشواط باتجاه النور والعلم. العالم يجري لاقدار ما عدنا نلحق بها بسبب وحشية البعض عندنا، كل سخرية من مشهد جميل عصا في عجلة النمو. هناك من لا يشعر بحزم العصي التي ما زال البعض يعتقد بانها لا تضر. نحن بحاجة الى مؤسسات تعيد بناء الانسان ثانية وثالثة، لا نريد أن نبدو اكثر وحشية من هذه. سأغفو ساعة علني أحلم بعشر المضيفات الشقراوات اللواتي دخلن سوق المغايز وتبضعن حلاوة نهر خوز وتمر برحي دونما اعتراض من المتهورين في السوق ؟