لطفية الدليمي
لاشكَ أنّ وسائل التواصل الإجتماعيّ شكّلت إنعطافة ثورية غير مسبوقة على كلّ الجبهات الإنسانية ، وربّما تكون الآثار السايكولوجية لهذه الإنعطافة (التواصلية الرقمية) هي الأخطر والأبرز والأكثر تأثيراً في الكائنات البشرية؛ فقد أتاحت مواقع التواصل الإجتماعي- وبخاصة الفيسبوك الأكثر شيوعاً في المنطقة العربية - للفرد العربي على وجه التخصيص نافذة مكّنته من الإطلالة على العالم والتعبير عمّا يجول بخاطره وجَعْلِهِ مكشوفاً أمام العالم بكبسة زرّ يسيرة.
إنّ هذا الإنكشاف الفرديّ للأفكار الشخصية أمام العالم موضوعة إشكالية عظيمة التأثير وهي موضع مساءلة بحثية دؤوبة ودراسات إستقصائية مكثفة على مستوى العالم بأكمله لمعرفة الكيفية التي تتغاير بها أنماط التفكير البشري أزاء الإستجابات اللحظية للأفكار المعروضة على الملأ؛ لكن ثمّة بعض المشتركات لدى كلّ الفيسبوكيين في العالم صارت بمثابة مدوّنة أعراف للنشر الفيسبوكي ، والجوهر في تلك الأعراف هو أنّ منصة التواصل الفيسبوكية ينبغي أن تكون شيئاً أكبر من محض (دردشات) رخيصة عابرة - أقرب إلى ثرثرات المقاهي- ولكن في الوقت ذاته أقلّ من أطروحات أكاديمية أو فلسفية مكتنفة بالإشكاليات المعرفية، والسبب وراء هذه المقايسة يسيرٌ يكاد يكون واضحاً بذاته : الفيسبوك منصّة تواصلية لتعزيز العلاقات البشرية وكبح قيود العزلة القسرية التي قد يعيشها بعض الأفراد لأسباب قاهرة ، ولابأس بالطبع من تبادل المطارحات الفكرية ولكن في حدود لاتنفّر البقية من رعايا المملكة الفيسبوكية. القاعدة الحاكمة في الفضاء الفيسبوكي إذن هي أنّ الفيسبوك أكبر من ثرثرات عابرة وأقلّ من أنساق حجاجية فكرية أو فلسفية كبيرة.
يحصل أحياناً وأنا أقلّب الصفحات الإفتراضية الفيسبوكية أن أعثر على أطروحات فكرية عظيمة الثراء لبعض الكاتبات والكُتّاب ممّن لي معهم سابق معرفة أدبية أو فكرية على الأغلب، وتعقب تلك الأطروحات تعليقات مطوّلة لاتقلّ ثراءً عن ثراء الفكرة المطروحة ، وهنا ينتابني الأسى والأسف و أسائل نفسي: وماذا بعدُ؟ ماذا بعد رمي كلّ تلك النفائس الفكرية في قاع المحيط الفيسبوكي العميق لتودع في محفوظات الذاكرة الرقمية العالمية التي ربّما لن يُتاح معاينتها مرّات أخرى ؟ لماذا يُهدَرُ هذا الجهد الخلّاق واللغة الرائقة المشذّبة في أتون فعالية يبدو مآلها الحتمي إلى غياهب النسيان؟
قد تختلف الإجابات على تساؤلاتي تبعاً لرؤية المرء وأنساقه الفكرية والثقافية ؛ لكنْ يبدو لي أنّ الإحتمال الأكبر هو الآتي : إنّ بعض الأفراد قد ضاقوا ذرعاً بأنماط النشر الإعتيادية التي يكتنفها الكثير من الإشكالات المادية والاعتبارية وبخاصة أنّ هؤلاء الأفراد لايجيدون لعبة العلاقات العامة بسبب تركيبتهم السايكولوجية التي تُؤثِرُ العزلة وتُبدي نفوراً طبيعياً من سياقات العمل غير اللائقة مهنياً وفكرياً؛ لذا نراهم يلجأون إلى النافذة الفيسبوكية لتفريغ شحناتهم الفكرية في فعل هو أقرب -ربّما- إلى النكاية بدور النشر التي تعتمد النشر الورقيّ التقليدي ، ولعلّ هؤلاء الأفراد يطمحون من خلال تعزيز الأطروحات الفكرية (القوية) في الفضاء الفيسبوكي إلى تدشين عصر رقميّ يتقبّل الأفكار القوية والرصينة في وسائل التواصل الإجتماعي حتّى لو تطلّب الأمر تعديل مدوّنة الأعراف الفيسبوكية وجعلها تتقبّل الأفكار غير الطارئة والبعيدة عن المونولوجات الشخصية.
نحن على أعتاب ثورات فكرية لانملك صورة لها في وقتنا الحاضر ، ولاأظنه بعيداً ذلك اليوم الذي سنشهد فيه بزوغ (أفلاطون) رقميّ من غياهب الذاكرة الفيسبوكية.