طالب عبد العزيز
من الشرفة، التي بفندق الراديسون بلو، بالشارقة، أطل على البحر، الخليج. أنا لا أسمع الموج، أنا أراه خلل الزجاج، الذي لا أجد له قبضة لأفتحه، ومن الشرفة، باذخة الستائر، أمدُّ ببصري بعيداً، فأرى ما يشبه غيماً، وما هو بغيم، بل، ضباب يحاول أن يصعد سحاباً، لكنه، لم ينزّ قطرة، منذ وقوعي خلف الزجاج والستائر هذه. الطيور تتقلب عليه، والسائحون ينزلون من سلالمه إليه، وأنا خلف الزجاج، أو في الحديقة، اتصفح كتاب المدن التي رأيت. يقول صديقي إن الماء أزرق، بلّوري، فأقول: نعم، رأيته في المسبح، كان أزرق حقاً، لكنه، محجوب في الفندق، متاحٌ خلفه.
بالسيارة الفارهة أخذني السائق الباكستاني الى مول صحارى، وهو متجر لا أكبر منه، جميل بما لا يبلغه الوصف، والبضاعة فيه بانواعها من كل مدن العالم، والمتبضعون قدموا من جنسيات الأرض. فسحة الأمن لا توصف، فقد هالني أنَّ أبواب المحال، كلها من الزجاج السميك وحده، فلا حديد ولا أقفال كبيرة. سألت السائق بعقل عراقي خالص عن ذلك، فقال:" في سكيورتي تمام وايد" ثم أنني رأيت السائقين لا يُطفئون محركات سياراتهم، ساعة يتركونها لأمر ما، لتظل مبردةً. ويقول: لم يحدث أن سرق أحدٌ، رأيت العاملين الآسيويين بحال تشبه الفقر، لكنَّ يدَ احدهم لم تمتد لسرقة شيء،دهمتني حادثة سيارة ابني، التي سرقوها في البصرة، قبل عشر سنوات.
تفلتُ من أسر الزجاج، ومن الفندق، وذهبت الى قاعة تعقد الدوائرُ الثقافية فيها مهرجاناً للشعر العربي، فقد قدِّم الإمارةَ شعراءُ من مختلف بلاد العرب. ورعى الحفل مسؤول رفيع، كانت القاعة باذخة الجمال بحق، فمن جانبها الثاني، هناك أكثر من مبنى خاص بالثقافة، مكتبة كبيرة، وتقاطع واسع جداً، سمّي بتقاطع الكتاب، لذا فالمعْلم الحضاري يشي بما بذل عليه من المال. أثنى عريف الحفل على الأمير وصحبه ورحب بنا، ثم قرأ كلمات هادئة، وبعدها نادى على الشاعر الأول، فقرأ من نسيج شعره، وتلاه ثان وثالث، ثم صعد المنصة الشاعر المحتفى به، فقرأ من جديد وقديم شعره، ولأنه المحتفى به، تقدم المسؤول الرفيع فكرمه، والتقط المصورون الصور بالمناسبة. في القاعة تلك، ووسط حشد المجتمعين سألت صديقي العُماني عن الشعر فقال:" الشعر في العراق".
مسافات لا حصر لمدياتها تكمن بين وقوعي خلف الزجاج، وتوقي لمعانقة الموج واستدرار السحاب مطراً ووقوفي على شط العرب ودجلة والفرات، وبين وجودي في المقهى حيث يطول الحديث عن الشعر وسيابييه وبياتييه وجواهرييه وسعدييه... أجدني أملك الكثير من الجرأة لأقول: البلاد جميلة، نعم، نظيفة، أيما والله، هادئة، وبكل ما في الهدوء من معنى. آمنة، حقاً، وهي ذلك كله، لكنها بلا روح.
في العراق البعيد، وفي السكك العتيقة بالزبير وأبي الخصيب والحيدر خانة والباب المعظم، وعلى كل حائط عتيق في بغداد والموصل والبصرة وبابل وو هناك شيء، لا أجد له تسمية، فاللغة تخذل صاحبها أحياناً، لكنني المسه، لعله الماء الأول للحياة، الذي تدفق هناك.