لطفية الدليمي
نواصل كتّابا وقراءً ومترجمين ملاحقة مايتعلق بالنتاج الروائي العالمي سواء عبر ترجمة الدراسات المتخصصة عنه كما في الترجمات التي تصديت لها شخصيا وصدرت عن دار المدى مثل كتاب (تطور الرواية الحديثة) وكتاب (الرواية المعاصرة) وكتاب (الرواية العالمية) ، أو عن طريق قراءتنا للروايات المترجمة حديثا على ندرة مايترجم قياسا لحجم الاصدارات الهائل من الروايات الاوروبية والأمريكية والآسيوية والإفريقية ، إذ يهتم معظم المترجمين بالروايات التي حققت شهرة أو تأهلت للجوائز، أو بأعمال نالت الشهرة بعد فوزها بنوبل للأدب مع تواضع مستواها الفني الذي يؤكد خلل اختيارات نوبل للأسماء الأدبية بخاصة في السنوات العشر الأخيرة، إذ خيبت هيئة الجائزة آمال القراء الذين راهنوا طويلا على فوز أدباء كبار ثم فوجئوا بفوز أسماء ماكانت لتخطر على بال أحد جرى تتويجها لحسابات سياسية وتسويقية خاضعة للعلاقات العامة كما في معظم جوائز الأدب.
لفتت الأنظار في الأعوام الاخيرة روايات ترجمت عن اللغة الايطالية كرباعية ايلينا فيرانتي النابولية التي لاقت نجاحاً كبيراً باعتبارها نغمة عولمية في معزوفة التحولات الأدبية العالمية التي تحتفي بالنبرة المحلية والرؤية النسوية للعالم ، ومثلها رباعية كارلوس زافون التي ظهرت الأجزاء الثلاثة الأولى منها عربياً وهي مكتوبة أصلا باللغة الاسبانية لتحتل مكانة فريدة لدى القراء العرب الذين افتتنوا بأصالة الرواية وكثافتها وعمقها كما فعلوا من قبل مع روايات النوبلي غابرييل غارسيا ماركيز.
اتجه بعض المعنيين بالرواية عندنا الى اعتبار أعمال زافون حالة معيارية واقتراحها كأنموذج ينبغي الاقتداء به في ثيماتها وأسلوبها متناسين أن اختلاف شخصية زافون ونمط حياته وأن نضجه الإبداعي تكامل وأثمر في مجتمعات حرة ومدن مفتوحة الآفاق وثقافة ليبرالية أتاحت له قدرا كبيرا من حرية الحركة ومعاينة ثيماته برؤية متعمقة لاتتاح للكاتب العربي المحاصر بشظف العيش والمحظورات المهيمنة على رؤيته ونتاجه فضلا عن كون زافون ربيب مدينة برشلونة الكوزموبوليتانية الكبرى ويعيش اليوم في مدينة عالمية أخرى هي لوس انجلس .
الرواية كما يعلم الجميع هي فن مدينيّ بورجوازي وليست حكاية ريفية عن شخصيات بسيطة، وينسى من يعتبرون روايات زافون - وصفة معيارية لكتابة رواية إن فلسفة المدينة الغربية وبنيتها الفكرية والمعمارية والتعليمية وطبقاتها الاجتماعية هي التي منحت عبقرية زافون هذا المدى من الأصالة والإبداع المتقد والفرادة في صوغ سردياته. فنحن نعرف جميعا أن الرواية ولدت في حاضنة الغرب الثقافية برغم الجدل القائم حول هذا الأمر ، فكان حرياً بالفن الروائي أن يتأثر بمجمل التطورات الثورية التي شهدتها المجتمعات الغربية في حقول الفلسفة والسيكولوجيا والعلم والتقنية والتجارب السباقة في مجالات الحياة ، مما منح الفن الروائي الغربي حركية مستمرة مكّنته من عكس إسقاطات تلك التغيرات الثورية على المنتج الروائي وتطعيمه بالحمولات المعرفية والكشوفات التي تضيء جوانب الحياة الانسانية المعقدة ، بينما انشغلت معظم الروايات العربية بملاعبة اللغة ووصف الوقائع من غير التأثير فيها وتجنبت الخوض في المعضلات الفكرية والفلسفية. ولكن ، ماسبب انتشار الآداب الآسيوية أو الأفريقية أو التركية في الشرق والغرب ؟
يبدو أن تلك الآداب انتشرت بعد أن رسّخت بلدانها بنيتها التحتية الاقتصادية والصناعية والتعليمية مستفيدة من الإرث الكولونيالي في التنظيم المؤسساتي وتوظيف وسائله لتحقيق الحضور العالمي بخاصة الكتابة باللغة الإنكليزية وهجرة بعض أدبائها الى المركزيات الغربية وتوظيف تجاربهم الثرية في أعمال حازت على القبول عندما خاطبوا القارئ الغربي بخطاب منفتح يقترب من اهتماماته أو تحدثوا عن تقاليد محلية ذات طابع سحري أو أسطوري...