TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > البرج العاجي: الموسيقى، طربٌ ومعرفة

البرج العاجي: الموسيقى، طربٌ ومعرفة

نشر في: 3 فبراير, 2019: 06:45 م

 فوزي كريم

حين أزعم أن الموسيقى مصدر معرفة، أو أنها ذات علاقة بالمعرفة، فالزعم وليد إحساس داخلي أولاً، قبل أن يكون وليد متابعة لعلاقة الموسيقى بالفلسفة في الكتب الغربية، والعربية القديمة. ثمة شيء طربي في "رباعيات" بيتهوفن الأخيرة، ولكن ثمة شيء أبلغ تأثيراً من الطرب، يجذبك إلى التأمل الروحي والعقلي. حتى أن "فيثاغورس" اليوناني، و"إخوان الصفا" العرب رفعو مصدر تأثيرها إلى "موسيقى الكواكب"، التي لا تلتقطها الأذن.
في القيم الفلسفية المعروفة: الجيد في "علم الأخلاق"، والحقيقي في "علم المنطق"، والجميل في "علم الجمال" ثمة رابط واضح يقول: إن الجميل لا بد أن يكون حقيقياً، والحقيقي لابد أن يكون جميلاً. وكلاهما لابد أن يكونا جيدين.
خذ "علم الجمال" منفرداً، لترى الغنى المعرفي حين يحاول الاجتهاد في الشأن الموسيقي. ففيه يتوزع الفلاسفة عبر العصور على اجتهادات متباينة. كثير منهم، من أمثال "أرسطو"، "كانت"، و"هيجل"، يرون الموسيقى لغة العواطف، التي تحاكي، أو تعيد صياغة، أو تعبر عن حالات فيزيائية، وعن توق وشغف. "شوبنهاور" و"نيتشة" يريان في الموسيقى تعبيراُ لا عن المشاعر بل عن "الإردة". في حين هاجم النمساوي "هانسلِك"، في منتصف القرن التاسع عشر، هذه الاجتهادات التي تُعنى بالتعبير العاطفي، وأرجع جوهر الموسيقى إلى مجرد صوت وحركة. فلاسفة متأخرون انتزعوا الموسيقى من علم الجمال ليروا فيها نوعاً من المعرفة والفكر.
إلى جانب نظريات المثقفين التي رأت الفن نوعاً من المعرفة هناك اجتهاد فلسفي مؤثر يؤمن أن ثمة إحساساً خاصاً، قوةً جمالية معينة تنتسب إلى العقل، بدل العاطفة الانسانية المعتادة التي ظلت لفترة طويلة كاستجابة مُعتمدة للخبرة الجمالية. هذا الموقف الفلسفي لا ينكر أن الفن يرتبط بالعاطفة، ولكنه يتساءل إذا ما كانت هذه العواطف التي نستقيها من الفن استثارة خاصة جداً، وعاطفة جمالية محددة جداً بدل أن تكون هي ذاتها المشاعر المعتادة التي نستعيدها في لحظة صفاء. هؤلاء جميعاً، من فلاسفة وموسيقيين ورسامين ونقاد شاءوا أن يستظلوا براية "الشكل الدال" في ذاته، كانوا يرون بأن الاستثارة العاطفية التي تولدها فينا الأعمال الفنية إنما تعود إلى إحساس جمالي خاص، وأن المتعة والرضا بهذا الحافز الجمالي إنما هي نوع نادر من الاستثارة، مستقلة تماماً عن العاطفة المألوفة في حياتنا اليومية. إن العاطفة المستثارة بفعل الفن إنما يولدها "الشكل الدال".
واضح أن هذا المصطلح لا ينطوي على وضوح كافٍ، لأن الشيء إذا ما كان دالاً فلا بد أنه يدل على شيء ما. فما الذي يدل عليه الشكل الدال، وما الذي تدل عليه الموسيقى الخالصة التي لا تعتمد نصاً مكتوباً كالأغنية والأوبرا؟ الجواب هو: "لا شيء وراء الموسيقى في ذاتها."
تؤكد هذه النظرية بأننا نملك حاسة جمالية، وفاعلية هذه الحاسة هي في تأمل العلاقات الشكلية، وهي منفصلة عن الحياة الغريزية (عواطف الحياة العادية) التي نعرفها. "العاطفة الجمالية" ليست عاطفة أحاسيس ولا أشياء ولا أشخاص ولا أحداث، ولكنها عواطف "علاقات"، علاقات شكلية شأنها شأن العلاقات بين النوتات التي تؤلف اللحن. التنظيم الشكلي هو جوهر الفن؛ والتعرف على الشكل لذاته يولد العاطفة الجمالية، ولكن بقدر ما تتعدد الفنون تتطلب مضامين لتتجسد في تلك التنظيمات الشكلية، إلى جانب عناصر أخرى من الميزات الحسية كاللون اللحني والنغمة، إلى جانب ما تدفقه الحياة الحقيقية، والأفكار الأدبية، وهي تقدم عواطف إضافية بفعل التواصل والذاكرة والميل الملح للعقل في التعامل مع الصور كرموز. الفنون المختلفة تعاني من هذا الشيء بدرجات مختلفة. الرياضيات للأسف ليست فناً، ولكنها لو كانت لأصبحت فناً متفوقاً إذ لا موضوع فيها لم يتشربه الشكل. إنها تأمل العلاقات المجردة عن أي شيء ذي صلة خارجها. موسيقى الآلات خالصة لأن الصوت يملك تكويناً فيزيائياً بالغ الرقة؛ فإذا ما بقيت مجردة عن أي تأثير أدبي فهي أفضل الفنون.
هذا ما تجتهد به الفلسفة من غنى معرفي بشأن الجمال الموسيقي، فكيف إذا ما واصلتَ مع "علم الأخلاق" و"علم المنطق"؟

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

القصة الكاملة لـ"العفو العام" من تعريف الإرهابي إلى "تبييض السجون"

الأزمة المالية في كردستان تؤدي إلى تراجع النشاطات الثقافية والفنية

شركات نفط تباشر بالمرحلة الثانية من مشروع تطوير حقل غرب القرنة

سيرك جواد الأسدي تطرح قضايا ساخنة في مسقط

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جنرالات الطائفية

العمود الثامن: لماذا لا نثق بهم؟

الصراع على البحر الأحمر من بوابة اليمن "السعيد" 

كيف يمكنناالاستفادة من تجارب الشعوب في مجال التعليم؟

العمود الثامن: رئيستهم ورئيسنا !!

العمود الثامن: بين الخالد والشهرستاني

 علي حسين أعرف جيداً أن البعض من الأعزاء يجدون في حديثي عمّا يجري في بلدان العالم نوعاً من البطر لا يهم المواطن المشغول باجتماعات الكتل السياسية التي دائما ما تطابنا بـ " رص...
علي حسين

قناطر: الربيع الأمريكي المُذِل

طالب عبد العزيز هل نحن بانتظار ربيع أمريكي قادم؟ على الرغم من كل ما حدث، وقد يحدث في الشرق الأوسط، نعم، وكم هو مؤسف أن تتحرك دفة التغيير بيد القبطان الأمريكي الحقير، وكم قبيح...
طالب عبد العزيز

تضارب المصالح بين إسرائيل وتركيا في سوريا وعواقبه

د. فالح الحمـــراني كما بات معروفاً، أن وزير الدفاع الإسرائيلي وبنيامين نتنياهو*، خلال لقاء حول موضوع الوجود التركي في سوريا، طرحا مقترحاً لـ"تقسيم سوريا إلى مناطق مقاطعات (الكانتونات)". وذكرت صحيفة إسرائيل هايوم عن خطة...
د. فالح الحمراني

النظام السياسي في العراق بين الخوف من التغيير وسؤال الشرعية

أحمد حسن لفهم حالة القلق التي تخيم على النخبة السياسية في العراق مع كل تغيير داخلي أو إقليمي، لا بد من تحليل عميق يرتكز على أسس واضحة ومنطقية. فالشرعية السياسية، التي تعد الركيزة الأساسية...
أحمد حسن
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram