علاء المفرجي
اعتادت السينما أن تغترف من الأدب، فقدمت أعمالا روائية كثيرة منذ بواكير النشأة السينمائية قبل أكثر من مئة عام وحتى الآن، وهي بالنتيجة أعمالٌ روائية مستوحاة من النص الروائي بتفاصيله أو بإضافة ثيمات أخرى عليه، أو بتأويل لايخرج على العموم عن رؤية مؤلف الرواية.
لكن هناك بعض الأفلام لبعض المخرجين تعتمد أعمالاً روائية ولكن ليست بتفاصيلها أو حتى ثيمة الرواية، لكنها تعتمد أجواءها وخطوطاً سردية غير واضحة في الرواية، مثل انتزاع موضوع الرواية من مرحلتها التاريخية وإسقاطها على الواقع المعاصر، أو باعتماد شخصيات الرواية نفسها من دون الانصياع لمصائرها كما رسمتها الرواية.. وهكذا. وهذا ماحصل في العديد من الأفلام نشير منها الى فيلم (القيامة الآن) لفرنسيس كوبولا الذي اعتمد رواية جوزيف كونراد (قلب الظلام).. ولكن بأجواء أخرى هي اجواء الحرب الاميركية - الفيتنامية.
واتوقف هنا مع فيلمين اعتمدا أعمالا أدبية بالاسلوب الذي تحدثنا عنه، الفيلم الاول الذي تناول الانتفاضة الخضراء التي هزت إيران على خلفية نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية، كانت خلفية لقصة حب تضمنها الفيلم الفرنسي "أزهار الشر" وهو التجربة الأولى لمخرجه دايفيد دوسا.. وأزهار الشر كما يعرف الكثير هي مجموعة قصائد كتبها الشاعر الفرنسي شارل بودلير .
لكن لا القصائد ولا الثورة الخضراء كانت المحور الأساس لموضوع الفيلم، بل هي مواقع التواصل الاجتماعي التي لعبت دوراً استثنائياً في إشعال حركات التغيير في المنطقة والتي كانت الساحة الإيرانية أول اختبار في فاعليتها في التحريض وتبادل الأخبار. الفيلم هو قصة حب في باريس بين (رشيد) وهو شاب فرنسي من أصل جزائري والشابة (اناهيتا) الناشطة في حركة التغيير في بلادها والوافدة حديثاً إلى باريس بسبب تفاقم أحداث بلدها. ومع تطور هذه العلاقة بالتوازي مع تطورها المحتدم في إيران الذي نستقبل تفاصيله من مواقع التواصل، تتقاطع حيثيات الحدثين بما يمنح السرد تطوراً ليس من الصعب فك شيفراته.. الفيلم عن التواصل الحضاري وأيضا عن ثورة المعلومات التي تضرب أطنابها في كل مفاصل الحياة.. أدّى دور الشخصيات الرئيسة في الفيلم رشيد يوسف وأليس بلايدي.
الفيلم الثاني هو (اسباب القلب) للمخرج المكسيكي ربستين. كان في فيلمه المهم (أسباب القلب)، مخلصاً لمنهجه في اعتماد الأدب والروايات العالمية موضوعات لأفلامه، ربستين اغترف من عيون الروايات موضوعاً لأفلامه، ولكن بمعالجة تشير إلى أسلوبه المتفرد بالعمل. فهو يبحث عن الأعمال التي تتماهى ورؤيته السينمائية ، لذا تراه يعيد إنتاج الفكرة بما ينسجم مع هذه الرؤية وكما نقل ربستين أجواء القاهرة إلى المكسيك في فيلمه المعد عن رواية نجيب محفوظ (بداية ونهاية)، فإنه قد اختار في فيلمه (أسباب القلب) أحد أهم الشخصيات الروائية في الأدب الفرنسي على الإطلاق، (ايما) في رواية جوستاف فلوبير (مدام بوفاري) لتكون موضوعاً لفيلمه هذا.من خلال امرأة مكسيكية تعيش الأجواء النفسية والاجتماعية نفسها. ومنذ المشهد الاستهلالي في الفيلم يجعلنا ربستين نعيش لحظات القلق والخواء الذي تعيشه بطلة الفيلم التي تتنازعها الرغبة في الانعتاق من القيد الاجتماعي والإحساس باللاجدوى من حياة لا جديد فيها سوى الهمّ الاجتماعي والاقتصادي.. ومثل ايما شخصية فلوبير تشعر بالنفور من الحاضر الرتيب، حالمة بحياة مكتظة بالعاطفة لتنغمس فيها برغبة عارمة، لكنها تصطدم بواقع لا يمنح أمثالها فرصة الانفلات..امرأة متزوجة من زوج خال من الحياة لا يوليها الاهتمام المطلوب.. تعشق مهاجراً كوبياً غير شرعي لا يبادلها الحب نفسه، فهو منشغل بحياته وطموحه في أن يكون عازف ساكسفون مشهورا، وهي لا تتوانى أيضاً في خيانة الاثنين في لحظة يأس مطبقة مع رجل جار لها في علاقة عبثية عابرة . تحاول الزوجة الإفلات من هذه الدائرة المغلقة بلاجدوى لتقرر الانتحار، الذي يبدو هنا حلا (معقولا) لورطة الروح.. وعند جثمانها يجتمع الرجال الثلاثة مع ابنتها الصغيرة بحوار هامس تصحبه موسيقى الساكسفون الحزينة.