TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: الملك فيصل الثاني وأنا في البصرة

قناطر: الملك فيصل الثاني وأنا في البصرة

نشر في: 16 فبراير, 2019: 08:18 م

 طالب عبد العزيز

منذ عقود وأنا أتعقب تاريخ ميلادي، تقول بطاقة الاحوال المدنية أنني من مواليد 2 حزيران سنة 1953 لكنَّ أبي وأمي أعلماني بانني ولدت في يوم من أواخر الشتاء، أو بداية الربيع، وهكذا ظلت المسافة بين حزيران اللاهب وبداية الربيع واسعة، تحرضني على الدأب والسعي لمعرفة حقيقة يوم وشهر وسنة ميلادي، حتى اهتديت أخيراً الى قراءة كتاب(سيرة حياة الملك فيصل الثاني( 1935-1958 ) آخر مولود العراق، لمؤلفه طارق إبراهيم شريف) الذي دلني الى نهاية جميلة لرحلة بحثي المضنية.
ولكن، هل حقاً كنت بحاجة الى معرفة ذلك، وماذا ستضيف لي معرفتي هذه، بعد أن جاورت الخامسة والستين، وأي خيبة تلك، التي أحسُّ بها بعد أعوام من الاحتفالات مع الأهل بيوم ميلاد كاذب؟
كان أبي يحدثني، وكذلك أمي، عن يوم مولدي بحديث طريف بعض الشيء، وكيف أنهم كانوا في عوز شديد، يومئذ، بعد أن غمرت مياه فيضان ربيع 1954 بغداد والجنوب العراقي، لتستقر في البصرة، وتأتي على ما غرسوا وزرعوا، ولولا التمر الذي احتفظوا به لماتوا جوعاً. في يوم مثل هذا، طرقت القابلة (أم بدر) المرأة، ذات الأصول الزنجبارية، التي تسكن وأسرتها قرب مسجد السراجي بابنا، واستقرت بين فخذي أمي لأكون، أما أبي فقد ظل حائراً، بما يتوجب عليه دفعه لها، فهو خلوٌ من المال ، وأمّي بحاجة الى قطعة قماش كهدية بالمناسبة، أو الى دجاجة تسدُّ بها رمقها وتتقوى على آلام المخاض، فماذا يفعل والبيت خلواً أيضاً، من ذلك كله.
في مثل اليوم ذاك، كان الملك فيصل الثاني قد وصل البصرة، مع ابن عمه الملك الحسين بن طلال ملك الاردن، فذهب أبي مع الناس، الذين تجمعوا لرؤيته، كانت السماء قد منحت الأرض بعضا من غيثها الربيعي، فهي مبللة أو شبه ذلك، طينية أو أقل، ولما كانت الناس تقفز محتفلة بمقدم الملك، والبيارق ترفُّ محيية، كان أبي وسط الحشود حائراً، يقفز ساعة ويسكن أخرى، فرحه بي وحاجته للمال لا يتساوق مع مشاعره برؤية الملك، لكنه، وفي حرارة احتفال الناس لاحت لعينه الدراهم على الأرض، هنا درهم وهناك درهم آخر، وهنا عشرة فلوس فضية تلمع وتلك آنة، وآنات وعشرات وأفلاس ودراهم كثيرة، حمراء وفضية.. وفي غفلة من الجميع، بما فيهم الملك انحنى أبي على الأرض، ليلتقط منها ما تبعثر من جيوب الناس المحتفلين، الذين ما انفكوا يقفزون، فتجاوزت الدينار والدينارين.
يقول ابي: "لم أر للسعادة طعماً كذاك اليوم، لقد نلت بغيتي وليذهب الملك الى الجحيم" ومثل أخيل، المحارب الطروادي انسل ابي من الجموع ، وقصد السوق القريب، فكان الرز والسمن واللحم والسكر والشاي وقطعة القماش، حتى إذا بلغ البيت وجدني، بالخرقة البيضاء، أصرخ بين يدي القابلة الزنجبارية، التي وهبها من دراهمه ما تبقى في جيبه.
يقول صاحب الكتاب بان الملك فيصل الثاني دخل البصرة ثلاث مرات: مرة في منتصف نيسان 1953 وثانية في الأول من آذار 1954 وثالثة في تشرين أول 1957 وبما انَّ رواية أبي وأمي تؤكد المطر والطين، فقد كانت ولادتي في زيارته الثانية هي المؤكدة، بل هي الصحيحة. وهكذا، سأعيد النظر في برجي، فأنا من الحوت، وستضطر الأسرة الى تغيير موعد احتفالها بيوم ميلادي، كذلك ساغير ما مدون في صفحتي على الفيسبوك، انا، الذي يعاني من سوفان في الرقبة وتهيج القولون وذبحة صدرية وتضخم البروستاتا وكلل في العينين ووو.   

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: صنع في العراق

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

 علي حسين اعترف بأنني كنت مترداً بتقديم الكاتب والروائي زهير الجزائري في الندوة التي خصصها له معرض العراق الدولي للكتاب ، وجدت صعوبة في تقديم كاتب تشعبت اهتماماته وهمومه ، تَّنقل من الصحافة...
علي حسين

قناديل: في انتظار كلمة أو إثنتيّن.. لا أكثر

 لطفية الدليمي ليلة الجمعة وليلة السبت على الأحد من الأسبوع الماضي عانيتُ واحدة من أسوأ ليالي حياتي. عانيت من سعالٍ جافٍ يأبى ان يتوقف لاصابتي بفايروس متحور . كنتُ مكتئبة وأشعرُ أنّ روحي...
لطفية الدليمي

قناطر: بعين العقل لا بأصبع الزناد

طالب عبد العزيز منذ عقدين ونصف والعراق لا يمتلك مقومات الدولة بمعناها الحقيقي، هو رموز دينية؛ بعضها مسلح، وتشكيلات حزبية بلا ايدولوجيات، ومقاولات سياسية، وحُزم قبلية، وجماعات عسكرية تنتصر للظالم، وشركات استحواذ تتسلط ......
طالب عبد العزيز

سوريا المتعددة: تجارب الأقليات من روج آفا إلى الجولاني

سعد سلوم في المقال السابق، رسمت صورة «مثلث المشرق» مسلطا الضوء على هشاشة الدولة السورية وضرورة إدارة التنوع، ويبدو أن ملف الأقليات في سوريا يظل الأكثر حساسية وتعقيدا. فبينما يمثل لبنان نموذجا مؤسسيا للطائفية...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram