طالب عبد العزيز
يستبدٌّ بك ألم الرأس، تتحسس منطقة الألم بيدك، تضغط على ما تسميه شرياناً، وريداً، تحاول تخفيف الالم، لكنه، يصّاعدُ بك، حتى إذا بلغ أوجه، ذهبت الى السرير تسأله أمناً، تستعطفه ألا يخذلك هذه المرة، يشير عقلك عليك، أنْ بلّغ زوجتك، أو أحد أبنائك، بما تعاني منه، منذ أسابيع وأشهر، قل لهم بأن عضلة القلب أو أحد أوردته يضيق، ساعة تضيق الدنيا من حولك لكنك، تصمت، تتجاهل النداء، صائحا بك: لطالما تحملت ما أصابك.
في سبعينيات القرن الماضي، كنتَ معارضاً سياسياً، يداهم بيت أبيك رجال الامن، ويطاردونك في الشارع، وفي الدائرة، فتهرب وتتخفى، وأنت صامت، تتحجج بما يبعد الشبهة عنك، تقول: لا شيء، مجرد شبهات. وفي الحرب، تكتب اليهم، بأنك في مكان آمن، وما بينك وجبهة القتال عشرات الكليومترات، فيما أنت في أتونها، ولما تمكنت الشظية من كتفك، قلت لهم، هي رصاصة طائشة خدشت الجلد ليس إلا. وفي أيام الحصار، كنت أول تارك لسفرة الطعام، تتركهم حولها، يستقطعون من مكانك مكانا آخر، وتدعي الشبع، لكنك، تظل أخمصهم بطناً، هكذا، أنت، قنطرة آلام طويلة، يمر عليك رجال الأمن، وتتخطاك الشظايا، ويعصر أمعاءك الجوع، وتصمت، تخشى على أفئدتهم مما قد يفزعهم.
تدخل غرفتك سرّأ، تكلم سكرتير طبيب القلبية، يحجز لك رقماً، دونما علم من أحد منهم، هم في غرفهم، بين زوجاتهم وأبنائهم، لا عليك، كن كما أنت، أجعل الأمر سهلاً كعادتك، وأن بلّغك الطبيب بجلطة عابرة، قل لهم مجدر زيادة في الدهون، وإن قال لك بانسداد شريان ما، قل لهم نصحني بأن لا أترك حبة الاسبرين، كن هكذا، كما كنت قبل أربعين عاماً، جبل صمت كبير. أتذكر صمتك يوم أبلغك الجندي باستشهاد شقيقك، في معركة الفاو، أسبوعان مرا عليك وأنت تغالب ما يتوجب عليك قوله لأمك، حتى إذا تم إخلاء الجثة، ووصولها دكة المغتسل، قلت لهم لقد مات عبد الواحد، اخترقت صدره شظية بحجم كف اليد، ولم يمهله الدم المتدفق فرصة ثانية للحياة.
خدش أحدهم بحيرة صمتك الأسبوع الماضي، هو من نافل الناس، وسقط متاع الآدميين، تجرأ وأسمعك كلمة وحشية، كنت القادر عليه إن أعلمت أبناءك وأهل بيتك، وهم مقتدرون، لكنك احتملت الاساءة، تخطاها صمتك، فذهبتْ الى وجرها لحظةٌ بغضاء قاسية، ومثل هذه وتلك الكثير. فلا احصي لك صبراً، ولا أبلغ معك حدوداً لصمتك، لا لشيء، إنما لكي يظلوا آمنين، بعيدين عن لحظة ضعفك وأنهيارك، وخارج يأسك. يكبرون فيك روحك القاهرة، ظانين بك بلوغ الصعاب، لا يرهبهم أمرٌ من أمور الحياة، فرشت أجنحتك على سماء أسرتهم، فناموا، وصعدت نخلة طمأنينتهم الطويلة، وأتيت بالتمر والحطب منها، فلم تشعرهم يوما بطولها، أو باحتمال سقوطها، ركبت بحر وصولهم فكانت الشواطئ قريبة، وما هي كذلك، لكنك أتيت بالبحر مركباً لمسراتهم، فاستقلوه الى أحلامهم وآمالهم.
لذا، قل لطبيب القلبية، ألا يعلمك بساعة عطل قلبك، أعلمه بطاقة تحملك، لا يستفزك بكلمة في معجمه، وكن كما أنت في الشكوى وسادة ألم خالدة.