ياسين طه حافظيوماًَ تحدثتُ عن بيت من الشعر كشف عن أمر فاجع يدمرّ كل الادعاءات الكاذبة في الفضيلة والعقلانية، بل هو أمر مُخزٍ يخجل الإنسان من ذكره، فكيف من فعله؟ ذلك البيت الشعري الذي أثار المشكلة ودفعني من بعد للكتابة، هو قول الفرزدق يفتخر:
وجَدّي الذي منعَ الوائدينَوأحيا الوئيدَ فلم يُوءَدِوجدُّ الفرزدق، هذا الذي يفتخر به حفيدهُ قام بمكرمة في الجاهلية هو انه كان كل مرةٍ يفتدي مولوداً بنتاً بناقتين وجمل فينقذها من الوأد، حتى بلغ ما انقذ من البنات وخلصّهن من الدفن احياء مائتين وثمانين بنتاً!نعم شخص واحد انقذ مائتين وثمانين انساناً من الدفن احياء ولسبب واحد هو انهن إناث! لنقل ان ذلك كان في الجاهلية وان الناس كانوا كذلك، ولسنا بصدد معايب الشعوب قبل التحضر. لكننا الآن في القرن الحادي والعشرين، في زمن الفضائيات والنزول على الكواكب وجلب عينات من حجارتها ومكونات سطحها. نحن في عالم كل بيت فيه تلفاز والناس ترى افلاماً واحداثاً مصورة من كل انحاء الأرض، فهل يعقل اننا حتى الآن نئد الاناث، وإنْ بطريقة اخرى؟ وهل نسكت على عار التخلف هذا لأن الوأد تطور فصار يُمارَسُ بأشكال أخرى "متحضرة"، كمنع البنات من اكمال دراستهن في المعاهد المختلطة ومنع العائلة، بسبب وجود البنات فيها، من مشاهدة الافلام وقصص الحب والرقص حتى وصل الامر الى منع مشاهدة الباليه؟ نعم، قد نرتضي بالغاء اختيارهن بعض الفضائيات لأسباب معروفة، فنحن ايضاً لا نرتاح لها، بل نشمئز من بعضها. ليس هذا موضوعنا، موضوعنا هو عملية المنع، القمع، الشراسة في العقاب، لإيضاح أكثر : القتل! يمكننا احترام الاختيار والسلوك السليم بالتربية الجيدة والسمو بالذوق واغناء النفس والعقل بما هو جيد وصحيح.الأمر هين حتى الان. فنحن لم نكمل حديثنا عن "الوأد الجديد" الذي هو اكثر وحشية وسوءاً من وأد الجاهلية. وقد ازدادت احداثه وبدأت تكثر ممارسته وتنتشر بين الناس اخباره. بعلانية اكثر اتحدث اكثر عن قتل الفتيات، عن ذبح النساء ذبحاً او باطلاق النار، غسلاً للعار!نحن ضد الخطأ الاخلاقي، ونريد الفتاة أو المرأة قوية الشخصية تتصرف بمسؤولية وادراك، لكن هذا لا تصنعه السكين، تصنعه التربية والوعي وادراك نتائج العمل وتبعاته. السكين حتى اذا ظلت تكرر فعلها فلن توقف الظاهرة المرفوضة. بناء نفسي قوي ووعي ثقافي وتربية حضارية صحيحة ذلك فقط ما يحمي الانسان ويبصره بعواقب خطئه، لا المرأة من خطئها فقط ولكن الرجل والمرأة من انزلاقهما..هذه المشكلة قديمة في العراق، لكنها لم تكن بهذه السعة وهذا العدد من الوأد الجديد، او القتل، والآن ليس للمولودين الجدد الصغار ولكن للكبار البالغين، فكم تتقدم الحضارة عندنا!أود ان أقول ، ان هذه الظاهرة لم تكن بهذه السعة في الخمسينيات حين كانت في بغداد سبعة مقاهِ مختلطة هي البرازيلية الشتوي، ثم البرازيلية الصيفي في الباب الشرقي قرب تمثال السعدون، حيث كانت تقدم المرطبات والشاي فيها بنات، وبوفيه السويس في الرشيد والميناء الازرق مقابل موقع الجندي المجهول القديم وكافيه بغداد في طريق معسكر الرشيد فضلا عن البيت البغدادي ونواد كثيرة اخرى وحين كانت هناك عدة معاهد لتعليم الرقص واخرى اكثر لتعليم الموسيقى. (اسأل الآن: كم مقهى مختلط في بغداد اليوم؟)، ولم تكن المرأة تخشى الخروج من المنزل وحدها بعد المساء لشراء حاجة او لزيارة او لقضاء امر عاجل. واليوم؟ اذن لابد من بحث متأنٍ لفهم ازدياد هذه الظاهرة الخطيرة ولابد من حلول حصيفة وعلمية، نحن نعلم ان هذه المشكلة قديمة في العراق وفي غير العراق من بلدان الشرق الأوسط، هذا الأوسط المتباهى بزيف فضائله وكذب تعفّفه وادعاء الطهرانية لتغطية الفساد في كل نواحي حياته.اننا في الوقت الذي نتمنى فيه لشبابنا جميعاً ولنسائنا ورجالنا سلوكاً قويماً ووعياً في كل الموضوعات لافي هذه حسب (فالشرف ليس في الاعضاء الجنسية وحدها)، أقول بوضوح ٍ اكثر: تقلقنا هذه الظاهرة المفزعة قلقاً كبيراً بسبب توقعنا لزيادة هذه الاحداث المؤسفة الموجعة.جذر المشكلة الجديدة، اعني اتساع الظاهرة القديمة، إننا أمام كثرة الفضائيات وكثرة المطبوعات كتباً ومجلات وكثر السفر والمشاهدات وسعة الحرية التي فاجأت الناس فزاد من فرص اطلاعهم وزاد من فرص الاختلاط وزاد ايضاً من الجرأة على الممنوع.. هي بعض الأعراض الجانبية للاطلاع والحرية.ومثلما نرى هذا التوجه غير مرضٍ، هو أيضاً يعني توسع العلاقات الاجتماعية، ويعني، في جانبه الأكثر ايجابية، حركة باتجاه حياة المجتمعات الحديثة. وهذا يعني بتفصيل اكثر، مع ما يعنيه، مزيداً من علاقات الحب والتعارف والتواصل الإنساني وأيضاً تجاوز الممنوع، فكانت النتيجة في المجتمعات "المحافظة" زيادة حوادث القتل "غسلاً للعار".ولابد من ان يحدث هذا في مجتمعات تسمي أفضل عضو لاستمرار الحياة وبقاء البشر على الأرض: عورة! أقول ثانيةً: يقلقنا تزايد "الخطأ" ويقلقنا ايضاً تزايد "القتل". فلا بد من عقل يضع الأمور في نصابها. فالمجتمعات الشرقية عموما،ً ومنها مجتمعنا الأكثر شرقية، باسوأ معاني الشرقية،
هل نوقف الحضارة.. أم يستمر قتل النساء؟
نشر في: 27 إبريل, 2010: 04:56 م