لطفية الدليمي
الفوضى* القبيحة هي تلك الفوضى الجيو - سياسية الموسومة - عسفاً وبهتاناً - بالفوضى الخلّاقة وماهي سوى فوضى مدمّرة ترى النتيجة الخلّاقة في مفاعيل الفوضى التي تستبيح أوطاناً وتلغي تواريخ وتعيد ترسيم الخرائط الجغرافية والسياسية والثقافية في إطار شبكة معقّدة من المصالح والعلاقات التي لاتأبه بغير المكاسب المتغوّلة ، وربّما كان العراقيون أخبر الناس بهذه الفوضى الخلّاقة اللعينة المزعومة التي بشّر بها الآباء المحافظون الجدد ومُريدوهم المحكومون بالغيبيات الأسطورية واللاهوتية التوراتية .
لكن ثمّة من جانب آخر فوضى خارقة الجمال صارت علامة فارقة لكلّ البحث الذي تتأسّس عليه نظرية الأنساق الحديثة بكلّ إشتباكاتها المعرفية العميقة ، ولعلّ (نظرية الفوضى) الرياضياتية غدت في السنوات القليلة الماضية العلامة الأبرز في نظرية الأنساق (الأنساق في السياق الثقافي تقابلُها مفردة " النّظُم " في السياق الرياضياتي والتقني) ، وبتنا نشهد كثرة من الموضوعات التي تكرّس هذا المفهوم على صعيد الفلم السينمائي والمسلسلات التلفازية والمطبوعات الثقافية ومجالات كثيرة قريبة من نبض الحياة اليومية .
تثير مفردة (الفوضى) لدينا في العادة شعوراً بعدم الراحة والإحساس بعدم إمتلاك معرفة كافية بالظواهر الموسومة بالفوضوية ، وقد جاهد العلم الفيزيائي في بواكيره الأولى لتحجيم هذه الفوضى وجعلها محكومة بقانونٍ ما ، وساد الشعور آنذاك بأنّ الفوضى ليست سوى تمظهرٍ لنقص جوهري في معرفتنا البشرية ، وكلّما توسّعت آفاق تلك المعرفة فسيقود الأمر بالضرورة لقصّ أجنحة الفوضى وجعلها تقترب من تخوم الظواهر المحكومة بقانون رياضياتي ؛ ولمّا كانت الفوضى مقترنة آنذاك بنقص المعرفة فقد غدت بالنتيجة قرينة القبح بمثل ماكان الجمال قرين المعرفة ، ولم تتخاذل جهود العلماء منذ بواكير الثورة النيوتنية ( نسبة إلى إسحق نيوتن ) وحتى منتصف القرن العشرين - تقريباً - في محاولة السعي لصياغات رياضياتية محكمة لكلّ الظواهر الطبيعية التي تبدو فوضوية لدى المراقب العادي .
ثمّة ثورة فكرية (أو إنزياح مفاهيمي بحسب تعبير فيلسوف العلم ومؤرّخه توماس كون) حصلت في أواسط القرن العشرين تقريباً : كان العلماء يوجّهون جلّ عنايتهم فيما مضى للمؤثّرات الكبيرة في النظام الذي يدرسونه ويلغون مفاعيل المؤثّرات الصغيرة وذلك لتيسير بلوغ الصياغات الرياضياتية التي تصف سلوك مثل تلك النظم ، وكان الشعور السائد لديهم أنّ (الصغير غير مؤثّر ويمكن إهماله دوماً) ؛ غير أنّ ظواهر طبيعية محدّدة أبانت أنّ (الصغير هو المؤثّر الأكبر ) في تلك النظم الفوضوية ، وأنّ الفوضى فيها تُبدي أنماطاً رائعة في جمالها وحيويّتها .
ترتبط نظرية الفوضى المعاصرة إرتباطاً وثيقاً مع دراسة النظم الديناميكية ، وغدا مبحث (النظم الديناميكية الفوضوية) أحد أهمّ المباحث الحيوية في الرياضيات والعلم بعامة لكونه يتناول بالبحث طائفة واسعة من الظواهر الطبيعية والمجتمعية: أسواق مالية ، نظم بيولوجية ، نمذجة حاسوبية لظواهر معقّدة ، شبكات العلاقات التواصلية الضخمة ،،، الخ .
الفوضى ، إذن ، مفهوم جوهري - وليس عرضياً عابراً - في العلم المعاصر ؛ لكن هل سيأتي يوم نشهد فيه الفوضى السياسية وقد صارت مبحثاً دراسياً في إطار علم الفوضى ورياضيات النظم الديناميكيّة ؟ إذا ماحصل ذلك فحينها - حسب - يمكن أن تكون الفوضى ( السياسية ) خلّاقة بحقّ!.
* تطلقُ مفردة (الشواش) على الفوضى بحسب المفردات العربية المعتمدة من قبل مجامع اللغة العربية.