لطفية الدليمي
لن نجافي الحقيقة إذا قلنا إنّ الأصوليات الآيديولوجية العربية التي تمثّلت في عناوين حزبية عريضة فشلت فشلاً ذريعاً في التعامل مع مخرجات العلم والتقنية ؛ لذا بات في عداد الأمور المسلّم بها أن نبحث عن مخرج مناسب من عنق هذه الزجاجة (الأصولية) والإنطلاق الحرّ نحو فضاء التجارب الناجحة، ولابأس من تمثّل بعض التجارب التي سبقتنا وأثبتت بالدليل الملموس رياديتها وتأثيرها في خلق إنعطافات مؤثرة في حياة شعوبها والعالم أجمع.
أمسى وادي السليكون في كاليفورنيا علامة فارقة في عصرنا هذا على الصعيدين التقني والآيديولوجي : أما التقني فهو لكون وادي السليكون تطوّر من مرفق تقني بسيط إلى مطبخ تقني هائل يجري فيه تجريب كلّ التقنيات الثورية الجديدة وبخاصة في ميدان الإتصالات والمعلوماتية ، وأما الجانب الآيديولوجي فيعود لكون وادي السليكون صار مثالاً للكيفية التي تتعشق بها الأفكار العلمية المستحدثة مع التطبيقات غير المسبوقة بطريقة مؤثرة على الصعد كافة -السياسية والإقتصادية والمالية وبحيث لم يعُد ثمة إمكانية لتخليق آيديولوجيات بعيدة عن الفضاء العلمي والتقني كما كان الأمر في العقود الماضية من القرن العشرين.
لنلقي نظرة على تجربة الهند مثلاً: هذه المئات من ملايين البشر الذين وُصفوا بأنهم (أمة من العباقرة) بحسب عنوان كتاب يحكي عن التجربة الهندية في كيفية وضع بصماتها المميزة على معظم مفاصل سوق المعلوماتية العالمية ، وقد بلغ الأمر أن يصبح معظم الشخصيات القيادية في المفاصل التقنية العالمية هنوداً ذوي إمكانات إدارية وتقنية عالية . فهناك في الهند جرى تأسيس مركز تقني في مدينة ( بنغالور ) شبيه بنظيره الأمريكي في ولاية كاليفورنيا، وقد ساهم المركز الهندي في تدريب الآلاف من الكفاءات العالية التي شاركت في إطلاق مارد الإقتصاد الهندي ونقله إلى مصاف الإقتصادات العالمية العملاقة .
ماذا لو فكّرنا بإنشاء ( وادي سليكون ) عربي ؟ تبدو الفكرة جذابة وعملية من أوجه كثيرة ؛ فهي تمثل إستثماراً في إقتصاد المعرفة المعروف بضخامة نواتجه المالية وتأثيراته الكبيرة باعتباره الماكنة التي ستعمل على الإرتقاء بالمجالات الأخرى وبخاصة في حقل التعليم والذكاء الإصطناعي والأتمتة ؟ ومعروف إن إقتصاد المعرفة يتعامل في المقام الأول مع العقول الطموحة والمتطلعة إلى تحقيق إنجازات عظيمة من شأنها قلب معادلة التخلف المفروضة على واقعنا.
ولكي تكون الفكرة عملية وليست محض تحليقات في فضاء الأفكار الجميلة فحسب سيكون تعشيقها مع جانب عملي واسع النطاق أمراً بالغ الضرورة ، وعلى سبيل المثال يمكن إتخاذ المثال الهندي أيضاً دليل عمل في هذا الميدان، وذلك بتصنيع حاسوب لوحي ( تابلت) بمواصفات مناسبة تفي بأغراض التعليم المدرسي، وهنا ستنشأ دورة عمل ثنائية متبادلة التأثير؛ فمن جهة سنضمن تصنيع جهاز لوحي منخفض التكلفة يفيد طلبة المدارس ويساعدهم على ولوج عتبة العصر الرقمي منذ بواكير حياتهم ، ومن الجهة الأخرى سيساهم الطلب الكبير على هذه الأجهزة في تخفيض كلفتها واستمرارية دورة العمل حتى لو كانت كلفة هذه الأجهزة أعلى قليلاً من نظيراتها الأجنبية في مراحلها الأولى ؛ لكنّ تطوير قاعدة المعرفة التقنية يتطلّب قدراً من الدعم المالي الأوّلي وحتى يبلغ المشروع مرحلة يديم بها نفسه من عوائد مبيعاته التقنية واسعة النطاق.
تصلحُ التقنية ماخرّبته الأيديولوجيا : هذه هي نقطة الشروع المناسبة التي يمكن التأسيس عليها لبناء قاعدة علمية تقنية عربية رصينة في عصر حلّت فيه التقنية محلّ الآيديولوجيات الأصولية الآفلة.