طالب عبد العزيز
التنقية والتطهير من معاني التهذيب، هكذا، كما ترد في المعجم. وفي تداع ما، تذكرتُ واحداً من الكتب المدرسية، التي كنا ندرسها، كتاباً بعنوان ( التربية والتهذيب) ودرج الناس على أن المُهَّذب، شخصية محبوبة، ومن معانيها: الخلق والأناقة والسلوك الحسن المتحضر. استحضر هذه وانا اعاين أغنية ومقطعاً راقصاً للمغني (ليوناردو كوهين) بعنوان(ارقص لي الى نهاية الحب) شيء مما لا يمكن التخلي عن سماعه ومشاهدته، وجدتني خارج فيزيقيا الجسد، بعيداً عن الوجود المضطرب، محلقاً في عالم من الرقة واللطف والتدفق الانساني، ما كنت لأعي ما يصنعه الرقص في جغرافيا الكائن وما يتحقق في الروح لولا الاغنية هذه.
على وفق ذلك، قلت لنفسي: العراقيون يغنون، ويرقصون أيضاً، في أفراحهم ومناسباتهم الاجتماعية، لكنني، قلما رأيتُ تهذيباً في ذلك !! تذكرت معنى التهذيب، وانا انظر الى الشباب الذين يقطعون الطريق، وهم ذاهبون الى قاعة زواج أحد أقربائهم او أصدقائهم، وتذكرتهم وهم يرددون الأغاني الانفجارية الصاخبة، بأصوات تلوث الأمكنة، لا تنم عن أي ذوق، تذكرتهم وهم يقرعون الطبول ويضربون على علب الصفيح وادوات الطبخ، وهم يثيرون الغبار من حولهم، في مجون وألفاظ هي مما تعافه النفس، في هيستريا غالباً ما تخرج عن حدود اللياقة، فهم يعملون على مضايقة الناس والجيران ومستعملي الطريق الآخرين.
جاء في بعض كلمات أغنية كوهين: (راقصني نحو جمالك بالكمنجة الحارقة راقصني عبر الخوف، كي أجد ملاذاً احملني مثل غصن زيتون، وكن حمامتي راقصني تجاه حفلة العرس/ راقصني لأجل اولئك الاطفال، الذين يطالبون بولادتهم ... ) لذا تذكرت كلمات الأغاني التي تطلق في مناسباتنا، بالجمل البذيئة، التي تسمعها النسوة والاطفال، تذكرت الحركات الهمجية التي يفتعلها المحتفلون أمام بعضهم، تذكرت الموسيقى الوحشية، والقرع غير المنتظم على الآلات البدائية.. وفي حمّى من غضب داخلي، كنت أقول مع نفسي ألا يطال التهذيب مثل الأفعال هذه ؟
كل شعوب الارض تغنّي وترقص وتحتفل، ومع يقيني بان الافعال الاولى للانسان لا يمكن أن تظل على بدئيتها، كما هي، ولا أقول بان سكان قارات الله السبع الأوائل وجدوا في غاية التهذيب، أبداً فالانسان هو الانسان، في الغابة والكهف والصحراء، لكنهم، وبعد التماس والاحتكام الى الجميل والقبيح، وقبول ما أضافته الحضارة، وما أدخلته المدنية على الحياة، استخلصوا السبل والطرائق الجميلة في ايصال فنونهم وتراثهم وحضارتهم، وبمعنى آخر تمكنوا من تهذيب الافعال تلك، أفعال الحياة بعامة، لذا، نجد مدنهم نظيفة وعنايتهم بالطبيعة فائقة، وأنسانهم أميل الى اللطف والتسامح، يرقصون ويغنون بما يضيف ويعزز من قيم الجمال بينهم.
نحنُ، أيضاً نرقص ونغني، في أفراحنا، ونندب ونصرخ ونجزع في مناسباتنا الحزينة، لكننا، ما زلنا على بدئيتنا، لم نُدخل عليها من القيم التحضر شيئاً، بمعنى آخر، أنَّ افعالنا تلك، ما زالت في غابتها وكهفها وصحرائها. ألا نحتاج درساً في التهذيب.