لطفية الدليمي
إنتهيتُ مؤخراً من قراءة الكتاب الممتع الصادر بعنوان ( مستقبل العقل ) ضمن سلسلة ( عالم المعرفة ) التي أواظب على قراءتها بانتظام منذ سنوات بعيدة ، وكان ثمة سبب إضافيّ دفعني لقراءة هذا الكتاب بالذات ؛ فمؤلفه هو الفيزيائي ومقدّم البرامج العلمية الأشهر ( ميشيو كاكو ) الذي لطالما شاهدناه في وثائقياته العلمية الرائعة المُعدّة عن كتبه ، مثل : رؤى مستقبلية ، فيزياء المستحيل ، العوالم المتعددة ،،،، الخ .
إنّ مما يبعث على الدهشة لدى مُشاهد هذه الوثائقيات - وقارئ الكتب كذلك - هو ذلك الكمّ الهائل من المعرفة المتداخلة بين الحقول المعرفية في شتى ألوانها ( علمية وفلسفية وأدبية ،،، الخ ) ؛ إذ ماعاد ممكناً تناول المعضلات الجوهرية التي تقترب من حافات الكوارث المؤكدة في عالمنا المعاصر من غير الإحاطة بجوانب معرفية متعددة ومتداخلة وبما يمكّن من الحصول على صورة شاملة طبقاً لما تتطلبه ( نظرية الأنساق Systems Theory ) التي غدت النظرية الأساسية العابرة للتخوم المعرفية . نقرأ في الفصل الأخير من كتاب ( كاكو ) عن ( الوعي الكمي ) وهو مبحث معرفيّ حديث بعض الشيء يسعى لتوظيف بعض النتائج المتحصلة من البحث في ميكانيك الكمّ على مفاهيم أساسية في الوجود البشريّ مثل الوعي ، وتلك مهمة ممتعة بقدر ماهي شاقة ، وتتطلّب قدراً هائلاً من التبحّر في علوم الفيزياء والرياضيات وهندسة البرمجيات والبرمجة اللغوية العصبية والسايكولوجيا الإدراكية بالإضافة إلى إمتلاك ذائقة فلسفية تستطيب لغة ( كانت ) و ( لايبنتز ) و ( سبينوزا ) بقدر استطابتها لمفاهيم ميكانيك الكمّ الحديثة .
إنّ موضوعة المعرفة العابرة للتخوم مسألة معقدة ومشتبكة وأكبر من موضوعة (الثقافتان) التي أشار لها (سي. بي. سنو) عام 1959 ؛ إذ أنّ ماأشار له (سنو) هو الهوّة الفاصلة بين الثقافتين العلمية والأدبية على وجه التحديد ، وكذلك مايترتّب على تفاقم تلك الهوة من خطل مفاهيمي يقود لمعضلات مجتمعية مؤذية . كان ذلك مع بداية العقد الستيني من القرن السابق ؛ أما في عالمنا المعاصر فقد بلغت الأمور حدّاً يستوجب الإلمام بشيء من التداخل بين العلوم ( والحقول المعرفية بعامة ) وذلك لسببين على الأقلّ : الأوّل إنّ هذا الفهم هو مايجعل المرء مؤثراً وقادراً على إمتلاك خلفية علمية تؤهله لفهم طبيعة العصر والمدى الهائل لتعقيد أنساقه المعرفية وبخاصة ونحن على أعتاب الثورة الصناعية الرابعة التي ستشهد ترسيخ سطوة الأتمتة ومنظومات الذكاء الإصطناعي الفائق والروبوتات المؤنسنة ، أما السبب الثاني فهو إنّ الفهم خطوة أولى باتجاه تكوين الدافع لتشكيل جماعات ضغط ( بيئية بخاصة ) تتولى الدفاع عن حقوق الأرض المستلبة التي تآكلت بفعل الجشع البشري المتوحش ، وليس خافياً أنّ المعرفة الرصينة هي المفتاح للتعامل المعقلن مع هذه الموضوعات المعقدة ، وإذا كان اللورد ( سنو ) ممتعضاً من سوء الفهم بين الثقافتين العلمية والأدبية فإن الحالة في عالمنا المعاصر أكثر تعقيداً بكثير وليست محض سوء فهم بل هي معرفة تنطوي على أنساق هائلة التعقيد مثلما تنطوي على كوارث مؤكدة قادمة ، ومالم نتحسّب لتلك المعرفة والكوارث بمعرفة عابرة للتخوم العلمية الضيقة والمحدودة فإنّ خسائر بالغة ستلحق بنا أفراداً وبلداناً .
هذا عصر المعرفة العابرة للتخوم ، وليس أمامنا من سبيل للتغافل عن هذه الحقيقة أو الإنكفاء على الجزر المعرفية المعزولة.