لطفية الدليمي
تابعت قبل أيام تفاصيل كثيرة نشرت حول الرواية الأحدث للكاتب الروائي البريطاني ( إيان ماك إيوان ) والمعنونة ( آلات تحبني " أو ربما آلات على شاكلتي " Machines Like Me ) ، ورحت أسترجع موضوعات لطالما إنشغلت بها لمتابعة التطورات الواضحة التي طالت أعمال ماك إيوان - تلك التطورات التي جعلت الوضع البشري في حقبة مابعد الإنسانية الموضوعة الأهم في أعماله الروائية إلى جانب اهتمامه بأوضاعنا البيئية الكارثية ونمط العلاقات التواصلية البشرية في حقبة طغيان خوارزميات الذكاء العام فائق الإمكانيات والعابر للقدرات البشرية المحكومة بمحدودياتها البيولوجية .
في فضائنا العربي مثّلَ حبيب عبد الرب سروري : بروفسور الرياضيات الحاسوبية والنظم الديناميكية والروائي والكاتب في مجالات معرفية مشتبكة ، مثّلَ في السنوات الأخيرة إسماً بارزاً في ميدان الكتابة الروائية التي تتجاوز الثيمات والأطر التقليدية باتجاه آفاق الحداثة التي تعتمد المتغيرات العلمية والتقنية المتسارعة ، لتصبح مؤثرات أساسية في العمل الروائي ، يقوم بذلك على نحوٍ يذكّرنا بما يفعله الروائي البريطاني ( ماك إيوان ) ؛ رغم ظني بأن سروري يواجه معضلات أشد بأساً من نظيره البريطاني ؛ فهو يمارس حفراً شديد التعقيد في بيئة صلدة متكلسة تجذّرت فيها اليقينيات من كل لون ( أسطورية ولاهوتية ومجتمعية ) .
لابد لمتابع مسيرة سروري أن يحيّي ذلك الفتى العَدَني بالغ الحيوية الذي عمل مدرساً للرياضيات في المدارس اليمنية فترة من الزمن، ثم دفعه طموحه تجاه فرنسا ليبلغ فيها درجة الأستاذية المنتجة ، وتكمن أهمية عمل سروري كما أرى في موضوعتين : الأولى تعشيق الفكر العلمي والتقني في الموضوعات الروائية وبطريقة تنشد - أو تسعى في الأقلّ - لجعل انعكاسات هذا الفكر مؤثراً حيوياً في البيئة العربية بدل أن يبقى تركيباً فوقياً شبيهاً بالأنساق اللاهوتية والسحرية ؛ وهو إذ يجتهد في هذا المسعى فإنه يؤكد وظيفة الرواية في عصرنا الحديث كونها أضحت القناة الإبداعية الأكثر فاعلية لتمرير المعرفة الموشحة بالمتعة والدهشة لقراء أصبحوا كائنات عولمية تعيش صخباً معلوماتياً يتفجر كل يوم . أما الموضوعة الثانية في كتابات الدكتور سروري فهي تبنيهِ مسألة (العقلنة) ومتابعة جذورها التأريخية المدفونة في البيئة العربية ( المعرّي مثالاً ) في محاولة لإحلال الأنساق المعقلنة محل أنماط التفكير الغيبية البائسة .
يبدو البروفسور سروري في كلّ أعماله ( الروائية وغير الروائية ) مهجوساً بالسؤال الجوهري التالي : ماذا نحن - العرب - فاعلون إزاء مرحلة ( مابعد الإنسانية ) ؟ صحيح أن العديد من بلدان العالم قد لاتملك مساهمة مباشرة في هذه الثورة التقنية الكبرى ؛ غير أنّ مايهمنا هنا معرفة كيفية التعامل مع نتائجها وتأثيراتها : كيف سنتعامل مع حقل التعليم الذي سيشهد ثورة جذرية تعيد تعريف دور الطالب والأستاذ والبيئة التعليمية ؟ كيف سنتعامل مع فرص العمل التي ستشهد ظهور أعمال جديدة مثلما ستشهد إختفاء أعمال أخرى ؟ وقبل هذا وذاك : كيف يمكن للعقل العربي أن يتعامل مع مخرجات هذه الثورة بعيداً عن ضغط الأنساق الموروثة شديدة الوطأة ؟
يُعلي البروفيسور حبيب عبد الرب سروري نداء الحكمة البشرية المعتقة الصادحة في البرية لأجل المسعى الإنساني المحموم نحو مستقبل قريب ، مستقبل ستسود فيه تقنيات مابعد الحقبة الإنسانية والخوارزميات الفائقة التي تميّزُ عصر تفردية الذكاء الإصطناعي - تلك التفردية التي ستعيد تشكيل الكائن البشري ونمط الحياة على كوكب الأرض .