شاكر لعيبي
من التعريفات التي ما زالت مقبولة لمفهوم الشعرية أنها، باختصار فاحش، "انحراف" عن المعاني القاموسية. فما الذي سنقوله عنها عندما تكون كما في اللسان العربي سلسلة متواصلة من الانحرافات الواضحة عن المعاني الأصلية، القاموسية؟.
طالعتُ مادة قرع في لسان العرب، فاستشكل عليّ أمرها بسبب وفرة مجازات الفعل واتساع رقعة انحرافاته، حتى لا جامع أحياناً بين بعض تلك الاستخدامات. فقلتُ لنفسي لأعد لمعجم "مقاييس اللغة" لابن فارس لعله يقول كلمة جامعة فاصلة بشأن قرع.
لكن ما الذي استشكل عليّ؟
تعدُّد معاني الفعل "قرع" وانحرافاته، إذ يبدأ اللسان الحديث عن القرع = الصلع، ومن صلع الإنسان إلى الحيوان: وقرعت النعامة قرعا سقط ريش رأسها من الكبر، والحية الأقرع إنما يتمعط شعر رأسه. يقال شجاع أقرع. والتقريع قص الشعر (وللمفردة معنى آخر قد نمرّ عليه). والقرع الجرب، والقرع الذي يؤكل، ثم قرع الشيء يقرعه قرعاً: ضربه. يقال العصا قرعت لذي الحلم. قال ورقة بن نوفل "هو الفحل لا يقرع أنفه"، أي أنه كفء كريم لا يرد. وقرع الدابة وأقرع الدابة بلجامها يقرع : كفها به وكبحها. وقرعت رأسه بالعصا قرعا مثل فرعت، وقرع فلان سنه ندماً. والقراع والمقارعة المضاربة بالسيوف وقيل مضاربة القوم في الحرب. وقريعك هو الذي يقارعك. والقارعة من شدائد الدهر وهي الداهية. القارعة هنا كل هنة شديدة القرع، وهي القيامة أيضا، وفي التنزيل "وما أدراك ما القارعة». والمقرعة خشبة تضرب بها البغال والحمير، وقيل كل ما قرع به فهو مقرعة. المقرعة التي تضرب بها الدابة والمقراع كالفأس يكسر بها الحجارة. وقرع ماء البئر نفد فقرع قعرها الدلو. والقراع الترس. وقرع التيس العنز إذا قفطها. وقرع القوم أقلقهم. والقرعة السهمة. والمقارعة المساهمة. وقد اقترع القوم وتقارعوا. والاقتراع هو الاختيار. يقال اقترع فلان، أي اختير. والقراع أن يأخذ الرجل الناقة الصعبة فيريضها للفحل فيبسرها. والمقروع هو السيد. والقريع هو السيد. وقدح أقرع وهو الذي حك بالحصى حتى بدت سفاسقه، أي طرائقه. وعود أقرع إذا قرع من لحائه. وقرع قرعاً فهو قرع ارتدع عن الشيء. والقرع إذا كان يقبل المشورة ويرتدع إذا ردع. وفلان لا يقرع إقراعاً إذا كان لا يقبل المشورة والنصيحة. قرع الرجل مكان يده من المائدة تقريعا إذا ترك مكان يده من المائدة فارغاً. ومن كلامهم "نعوذ بالله من قرع الفناء وصفر الإناء"، أي خلو الديار من سكانها والآنية من مستودعاتها.... الخ.
فما الرابط العلنيّ أو الخفيّ بين الصلع ونبات القرع وفعل الضرب والقارعة والاقتراع والارتداع ومقارعة الأعداء وقرع الباب وغير ذلك؟ إلأ أن تكون غالبية الاستخدامات مجازية صافية، أو هي استعارات شعرية خالصة؟
بالنسبة لابن فارس تتعلق الدلالة الجامعة الشاملة للفعل قرع بالضرب، ولنضفْ نحن بصوت الضرب بالأحرى، مع أنه يحمل فعل الضرب محملاً مجازياً أحياناً: "والقارعة هي الشديدة من شدائد الدهر; وسميت بذلك لأنها تقرع الناس، أي تضربهم بشدتها. والقارعة: القيامة، لأنها تضرب وتصيب الناس بإقراعها... القريع هو السيد، سمي بذلك لأنه يعول عليه في الأمور، فكأنه يقرع بكثرة ما يسأل ويستعان به فيه. والدليل على هذا أنهم يسمونه مقروعا أيضاً». وهذا تأويل مقبول إلى حد كبير لكنه لا يُشفي الغليل، خاصة وأنه يستثنى القرع = الصلع. لعلّ بعض الاستخدامات من أصول لغوية سامية سابقة قد تدفعنا لرؤية الحروف الصوائت فيها التي لعلها موصولة بأفعال أخرى في تلك اللغات.
ما زلنا اليوم نستخدم قرع بمعنى محض مجازيّ.